آراء و مقالات

الإعلام الأمريكي بين الحرية والتوجيه السياسي

رعايت الله فاروقي

صورة: GIJN

ظلَّ الإعلام الأمريكي يُقدَّم للعالم لعقودٍ طويلة كنموذجٍ للحرية والاستقلالية حيث يُقال إن الصحفيين هناك يتمتعون بحرية مطلقة في كشف الحقائق دون أي ضغوط حكومية أو تأثيرات خفية. لكن مع التطورات الأخيرة بدأت هذه الصورة المثالية في التآكل وظهر الوجه الآخر لهذا الإعلام الذي يبدو أنه لم يكن سوى أداة ناعمة تُستخدم لتوجيه الرأي العام الأمريكي والدولي وفقًا لمصالح القوى الحاكمة.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات بدا أن الولايات المتحدة أصبحت القوة العظمى الوحيدة بلا منافس قادر على تهديد نفوذها. هذا الواقع دفع بعض المفكرين مثل “فرانسيس فوكوياما” إلى الإعلان عن “نهاية التاريخ” واعتبر أن العالم دخل عصرًا جديدًا تحكمه الليبرالية دون أي تحديات أيديولوجية أو سياسية. في ذلك الوقت تحول العديد من المفكرين الذين كانوا بالأمس يروّجون للشيوعية إلى دعاة لليبرالية في تغييرٍ سريع أظهر مدى هشاشة القناعات الأيديولوجية لبعض النخب.

لكن، وعلى الرغم من الفرصة التاريخية التي أُتيحت لأمريكا لتكريس نفوذها عالميًا فإنها فشلت في تحقيق سيطرةٍ مطلقة والسبب لم يكن قوة خارجية بل السياسات الأمريكية نفسها. فهذه الدولة التي قامت تاريخيًا على القوة العسكرية دخلت في سلسلة حروب استنزافية لم تجنِ منها سوى الخسائر. منذ تأسيسها قبل أكثر من 250 عامًا خاضت أمريكا أكثر من 240 حربًا معظمها ضد دولٍ أضعف منها بكثير مما يعكس طبيعة استراتيجيتها العسكرية القائمة على إخضاع الدول التي لا تمتلك القدرة على الرد بالمثل.

مع نهاية الحرب الباردة، وضعت واشنطن خطة لترسيخ سيطرتها عبر القوة العسكرية مستهدفةً سبع دول وفقًا لما كشفه الجنرال الأمريكي السابق “ويسلي كلارك”. كان الهدف هو إرسال رسالة واضحة للعالم مفادها أن الولايات المتحدة هي القوة التي لا تُقهر. لكن الأمور لم تسر كما خُطِّط لها، إذ بدأ الفشل يتكشف في أفغانستان والعراق ثم امتد إلى ما سُمّي بـ”الربيع العربي” الذي لم يؤدِّ إلى النتائج المرجوة.

خلال هذه الفترة، بينما كانت واشنطن منشغلة بحروبها كانت الصين تحقق قفزات اقتصادية وعسكرية وتتمكن من الوصول إلى مستوى عالمي في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتصنيع العسكري. وفي الوقت نفسه، استعادت روسيا مكانتها كقوة عسكرية وسياسية بارزة. وها نحن اليوم نشهد عالمًا جديدًا تُطرح فيه أسئلة لم يكن أحد يتخيلها قبل عقدين: “هل البحرية الصينية أقوى من الأمريكية؟”، “لماذا تمتلك روسيا والصين صواريخ تفوق سرعة الصوت بينما لا تمتلكها أمريكا؟”.

منذ سنوات، كان يُقال لنا إن الإعلام الأمريكي هو النموذج الأمثل لحرية التعبير وإن الصحافة هناك لا تخضع لأي نفوذٍ سياسي أو مالي لكن الواقع كشف خلاف ذلك. فقد تبيّن أن المؤسسات الإعلامية الكبرى تتلقى مليارات الدولارات لتمرير روايات تتماشى مع أجندة الحكومة الأمريكية وهو ما كشفته إدارة الرئيس دونالد ترامب التي كشفت عن تمويلات ضخمة قُدّمت لوسائل الإعلام والصحفيين من أجل نشر “حقائق إعلامية” أي حقائق تتوافق مع السياسات الرسمية.

هذه الفضائح لم تمر دون تداعيات، إذ تراجعت شعبية كبرى القنوات الإخبارية الأمريكية بشكل غير مسبوق. قناة CNN التي كانت ذات يوم أحد أعمدة الإعلام العالمي لم يعد يتجاوز عدد مشاهديها في أوقات الذروة 300 ألف مشاهد فقط وهو رقم متواضع جدًا مقارنة بماضيها. أما CNBC فباتت محل سخرية من رجال الأعمال حيث عرض إيلون ماسك شرائها في إشارةٍ إلى تراجع قيمتها الإعلامية.

الأكثر إثارة للدهشة أن الجمهور الأمريكي بات أكثر ميلاً لمتابعة الإعلام المستقل مثل “المدونين واليوتيوبرز” الذين تفوق مشاهداتهم أحيانًا على القنوات الإخبارية الكبرى. هذا التحول يعكس أزمة ثقة حقيقية بين الجمهور الأمريكي وإعلامه التقليدي الذي بدا للكثيرين مجرد بوقٍ للدولة العميقة وليس صوتًا للحقيقة.

عندما انهار الاتحاد السوفيتي، تصوّر الكثيرون أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الهيمنة الأمريكية المطلقة. لكن بعد 25 عامًا فقط بدأت علامات التراجع تظهر بوضوح ليس فقط على المستوى العسكري والاقتصادي، بل أيضًا في فقدان الإعلام الأمريكي لمصداقيته. اليوم تتجه الشبكات الإعلامية الكبرى إلى تسريح موظفيها بسبب تراجع الإيرادات ونسب المشاهدة فيما تزداد قوة الإعلام البديل.

في النهاية، يبدو أن الولايات المتحدة لم تستطع حماية سرديتها الخاصة عن العالم لا عبر القوة العسكرية ولا عبر هيمنة إعلامها. وإذا كان الإعلام هو مرآة الدولة فإن تصدعه اليوم يعكس بوضوح تصدع الهيمنة الأمريكية عالميًا.

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا