آراء و مقالات

فخ الحداثة: الإنسان بين وهم الحرية وحقيقة الاغتراب

تعبيرية (dreamstime)

في عالم يضج بالضجيج والمعلومات والتقنيات، بات الإنسان أبعد ما يكون عن ذاته. فمن النادر أن يتاح له الإصغاء لصوته الداخلي وسط هذا الكم الهائل من المؤثرات الخارجية. لقد أصبح الفرد أسير منظومة شاملة تُشرف على تفاصيل حياته بدقة ابتداءً من اللغة التي ينطق بها إلى الأحلام التي يحلمها. يُقال له: كيف يفكر، بماذا يحلم وحتى ما يجب أن يعتبره “أخلاقيًا” أو “مقبولًا”.

الإنسان المعاصر الذي يُفترض أنه متحضّر وواعٍ لكنه يعيش – في الحقيقة – حالة من الغفلة العميقة. محاط بمنظومات قانونية وتعليمية وثقافية تُلقّنه الطاعة وتمنحه وهم الرضا بينما تجرده من فاعليته الحقيقية. تلك القدرة الإنسانية الأصيلة على التفكير والاختيار والاعتراض.

ومع ذلك، قد تأتي لحظة ينهض فيها الوعي من غفوته فيطرح الإنسان على نفسه أسئلة مصيرية:
هل هذه الحياة ملكي فعلًا؟
هل أنا ما أعتقده عن نفسي أم ما أرادت لي المنظومة أن أكونه؟

هذه التساؤلات وإن بدت مزعجة، تشكّل بداية صحوة فكرية تُفضي في كثير من الأحيان إلى أزمة داخلية. يدرك الفرد حينها أن ما كان يظنه “اختيارًا حرًّا” لم يكن سوى نتائج مُعدة سلفًا ضمن منظومة أكبر.

العصر الحديث، رغم شعاراته اللامعة: “الحرية” و”الحق” و”التقدّم” و”التنوير”، لا يترك للفرد مجالًا حقيقيًا لممارسة إنسانيته بحرية. فكل شيء – حتى الأحلام والطموحات – باتت “مُعلبة” ومُعدة مسبقًا وفق خوارزميات ومصالح أكبر. الفرد لم يعد يُرى ككائن حيّ بل كرقم في قاعدة بيانات وككود رقميّ يُدار ويُراقب.

والمفارقة أن هذا القهر الجديد لا يتجلى في السجون أو الأسلاك الشائكة بل في الإقناع الناعم، في الخطاب الذي يجعل من الوضع القائم قدرًا لا مفر منه. وهنا يكمن ما يصفه البعض بـ“القسر المعرفي” (Epistemic coercion)، ذلك الشكل من السيطرة الذي لا يشعر به الإنسان لأنه متغلغل في بنية تفكيره.

لكن وسط هذا كله، تظهر لحظات نادرة من الوعي. لحظات يختبر فيها الإنسان شعورًا غريبًا بأن هناك شيئًا ثمينًا فُقد. ربما هي تلك “الحرية الفاعلة” التي لا تعني فقط حرية الاختيار بل القدرة على التفكير خارج الأطر وعلى قول “لا” حين يكون “القبول” هو الخيار المفروض.

من هذه النقطة، يبدأ الإنسان رحلة داخلية: رحلة نحو الذات.. رحلة استرداد لا تخلو من الألم والمواجهة لكنها ضرورية لاستعادة الصوت الذي خنقته طبقات من الصمت والتلقين. إنها ليست ثورة على منظومة بعينها بل على طريقة التفكير التي تشترط الخضوع لكل ما هو سائد ومُعترف به.

وهنا لا يعود الإنسان ساعيًا فقط إلى تحرر شخصي بل باحثًا عن خلق معنى جديد للوجود. يبدأ بمساءلة “السلطات” التي طالما صُوّرت على أنها حامية للحق والخير: من العلماء إلى المثقفين ومن رجال الدين إلى المدافعين عن حقوق الإنسان. يراهم الآن كجزء من بنية قوة أكبر تُسهم في إعادة إنتاج السيطرة بلغة الحرية.

ومن هذه الزاوية بالذات، تبدأ المعارك الحقيقية. لا معارك تغيير الوجوه أو الشعارات بل معركة استعادة الوعي. لأن الحرية الحقيقية لا تُصنع في صناديق الاقتراع وحدها ولا في صفحات الدساتير بل في لحظة إدراك الإنسان لذاته ككائن مستقل، له الحق في أن يسائل ويشك ويختار ويرفض.

وفي نهاية المطاف، إن لم يرَ الإنسان نفسه إلا تابعًا للمنظومة فإن كل تغيير سياسي أو اجتماعي لن يكون إلا إعادة إنتاج لقهر سابق بلغة جديدة وأدوات أكثر نعومة. وهنا يكمن فخ الحداثة الأكبر: أن تبيع الوهم بلغة الحقيقة وأن تُحكم القبضة باسم الحرية.

التحرر الحقيقي يبدأ من الداخل: من لحظة وعي.. من سؤال صادق.. من انكسار في السردية الرسمية. ومن هذا الشرخ الصغير يولد النور.

المقال باللغة الأردية نشره صفحة محمد دين جوهر وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة حسين عبدالله، والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لـ UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا