آراء و مقالات

الحياد الروسي في النزاع الهندي-الباكستاني: قراءة تحليلية

تعبيرية (UrKish)

رعايت الله فاروقي

خلال التوترات الأخيرة بين باكستان والهند التي شهدت تصعيداً ملحوظاً في الأشهر القليلة الماضية، برز سؤال مركزي في الإعلام الهندي: لماذا لم تقف روسيا، الحليف الاستراتيجي التقليدي، إلى جانب الهند في مواجهة باكستان؟
روسيا التي لطالما وُصفت بشريك نيودلهي الوثيق، هذه المرة اختارت أن تتخذ موقف الوساطة والحياد مع عرض التوسط بين الطرفين بدلا من الانحياز الحازم للهند.

هذا الموقف الروسي شكّل صدمة للكثير من النخب السياسية والإعلامية في الهند التي اعتبرت أن موسكو “خذلتها” في وقت المحنة، لكنها في الواقع تعكس فهما عميقا لتغيرات استراتيجية وفكرية في العلاقة بين البلدين.

في العلاقات الدولية، الوساطة تعني غالبا اتخاذ موقف حيادي وهذا ما فعلته روسيا. وعلى الرغم من إدراك النخبة الهندية لهذا الأمر فإنها حاولت تصوير الأمر وكأنه خيانة غير مبررة. لكن تحليل المشهد السياسي والاجتماعي يكشف أن الموقف الروسي منسجم مع واقع علاقة “الحب في بوليوود” التي تجمع البلدين: على الشاشة (في الزيارات الرسمية) يظهر الزعماء وكأنهم أصدقاء مقربون لكن وراء الكواليس (في السياسة الحقيقية) تعود كل دولة إلى تحالفاتها الحقيقية.

لنفهم لماذا روسيا تتصرف بهذا الشكل، يمكن مراقبة محورين رئيسيين:
أولا: الثقافة الخارجية التي تؤثر في الهند ومصدر توجهاتها السياسية والاجتماعية. ثانيا: الوجهات المفضلة للمهاجرين الهنود وأين يرون مستقبلا أفضل.

الهند تهيمن فيها الثقافة الغربية وخاصة البريطانية بشكل قوي ويعتبر العديد من النخب أن الهوية الغربية هي الهوية الأفضل ما يُظهره انحياز اللغة الإنجليزية وعدم استخدام الهندية كلغة رسمية أو ثقافية مهيمنة في الأوساط الحضرية والنخبوية. وعندما يحلم المواطن الهندي بالهجرة تتجه الأنظار تلقائيا إلى بريطانيا وأمريكا وكندا وليس روسيا.

على العكس من ذلك، شهدت روسيا خلال السنوات الأخيرة هجرة ملحوظة من مواطني الغرب (أمريكيين وكنديين) إليها، إذ سهلت روسيا بشكل كبير شروط الحصول على الجنسية من خلال إثبات الكفاءة العلمية أو المهنية وتعلم اللغة الروسية.

هذا الاختلاف في الوجهات والتوجهات يعكس اختلافا جوهريا في مكانة روسيا لدى النخب الهندية حيث لم تعد موسكو شريكا ذا وزن ثقافي أو حضاري، بل مجرد مورد استراتيجي يُستخدم عند الحاجة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقة الاستراتيجية التي تتحدث عنها موسكو ونيودلهي هي في واقعها علاقة أحادية الجانب. فعندما تحتاج الهند تحصل على دعم روسيا الدبلوماسي والعسكري مثل استخدام حق النقض في مجلس الأمن ضد قرارات قد تضر بمصالحها.
أما عندما تحتاج روسيا إلى دعم في القضايا الكبرى مثل الأزمة الأوكرانية، فتهرب الهند من دعم موسكو وتلتزم “الحياد” أو تدعو ببساطة إلى “الحوار والسلام” بدون التزام سياسي واضح.

في هذا السياق، تصبر موسكو على هذه المواقف الهندية لكنها تدرك أن العلاقات لا تقوم على مجرد مصالح وقتية بل على توافق فكري وأيديولوجي. ومن هنا يأتي الفارق بين القيادة الروسية برئاسة فلاديمير بوتين والحكومة الهندية بقيادة ناريندرا مودي.

بوتين يتبنى سياسة تركز على وحدة روسيا واحترام التنوع الديني حيث منح سبع جمهوريات إسلامية حكم ذاتي واسع النطاق يسمح لها بتطبيق قوانين إسلامية ويمارس سكانها شعائرهم بحرية. كما يسمح الجيش الروسي للمسلمين بالحفاظ على مظهرهم الديني كإطلاق اللحية خلافاً للانضباط العسكري التقليدي.
في المقابل، تسير الهند في اتجاه معاكس حيث يتعرض المسلمون – الذين يشكلون نحو 200 مليون نسمة – لضغوط متزايدة وسياسات تهميش واحتقار سواء عبر هدم مسجد بابري عام 1992 أو استهداف الأضرحة الإسلامية وهو ما يعكس صعود القومية الهندوسية تحت حكم مودي.

هذا التباين الأيديولوجي والفكري يفسر لماذا لا يمكن اعتبار العلاقة بين موسكو ونيودلهي تحالفا استراتيجيا حقيقيا بل مجرد تعاون مؤقت قائم على مصالح آنية. ويُعزز هذا التفسير التقارب الهندي مع إسرائيل المبني على مواقف أيديولوجية مشتركة في مواجهة ما يعتبرونه تهديدا إسلاميا.

وعلى الصعيد الاقتصادي، لا يمكن تجاهل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا التي أثرت بشكل كبير على اقتصادات أوروبا ما أدى إلى تراجع بعض الدول الأوروبية في قائمة أقوى 10 اقتصادات عالمية بينما تقدمت الهند وإندونيسيا، ليس نتيجة نمو اقتصادي حقيقي بل لأن الآخرين تراجعوا.

هذا الاعتقاد المبالغ فيه في قدرة الهند الاقتصادية ظهر جليا في تصريحات وزرائها، وخاصة وزير الخارجية جاي شنكر الذي وجه انتقادات لاذعة إلى الغرب وروسيا على حد سواء بينما تجاهل رئيس الوزراء مودي دعوة بوتين لحضور احتفالات يوم النصر في 9 مايو 2024 في موسكو والذي يوافق الذكرى الـ80 لهزيمة النازية.

بل إن مودي اختار وقتا حساسا للغاية للهجوم على باكستان تزامنا مع هذه الاحتفالات مما تسبب في إحراج دبلوماسي لموسكو إذ انشغل الإعلام العالمي بالأزمة في جنوب آسيا بدلاً من التركيز على موسكو.

هذا التصرف يؤكد إهمال الهند لحساسيات موسكو وقد يدفع روسيا لتعزيز علاقاتها مع باكستان ما قد يحدث تحولا استراتيجيا مهما في المنطقة.

في النهاية، إن عدم دعم روسيا للهند في الأزمة الأخيرة لا يمكن تفسيره على أنه مجرد خذلان عابر بل هو نتاج معقد لحسابات سياسية وأيديولوجية واقتصادية عميقة تعكس واقع العلاقات الدولية التي تقوم على التوازن والاحترام المتبادل وتوافق الرؤى وليس فقط المصالح المؤقتة.

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد، والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا