آراء و مقالات

الحداثة والسيادة المزدوجة: قانون فوق القانون

تعبيرية (britannica)

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة وتفاقم الأزمات الأخلاقية والإنسانية، يطفو على السطح سؤال جوهري: من يملك السيادة؟ وهل لا تزال فكرة العدل قابلة للتحقق في ظل المنظومة السياسية الحديثة؟

الشريعة الإسلامية بوصفها أمرا إلهيا موجّها للإنسان بكل حالاته وطبقاته تضع الإنسان ـ سواء كان فردا عاديا أو صاحب سلطة ـ أمام مسؤولية الطاعة غير المشروطة. هذا الطابع الإلزامي يجعل من الشريعة ذات طبيعة سيادية لأنها لا تستمد شرعيتها من البشر أو المؤسسات بل من مصدر متعالٍ فوق التاريخ والمجتمع. غير أن هذا المعنى للسيادة يصطدم بشكل مباشر مع التصور الحديث للسلطة.

القوة السياسية الحديثة التي نشأت في أعقاب الحداثة الغربية تدّعي السيادة لنفسها وتُنتج بناءً على هذا الادعاء كيانا معقدا يُعرف بالدولة الحديثة. هذا الكيان لا يعكس وحدة الإنسان بل يُكرّس ازدواجية بنيوية تُفقد المجتمعات قدرتها على إنتاج العدل.
ففي حين تتحدث الأدبيات الحديثة عن “سيادة الأمة”، فإن هذا المفهوم يقوم في جوهره على أساس عرقي وهو ما يجعله أقرب إلى التصور القومي العنصري، لا إلى المساواة أو الحرية.

ومع انتقال السيادة من مفهوم الأمة إلى جهاز الدولة، تُمنح السلطة لكيان فوق-إنساني يُمارس حكمه من خلال منظومة قانونية مزدوجة: الأولى خاصة بالدولة ذاتها وتتمثل في “الدستور” والثانية تُفرض على العامة تحت مسمى “القانون العام”.
هذه الازدواجية تؤسس لانقسام وجودي يفصل بين الحاكم والمحكوم ويجعل من العدل فكرة نظرية غير قابلة للتحقق لأن القانون لم يعُد يتسم بالشمول أو الإنصاف بل يُصاغ بما يخدم فئة دون أخرى.

ومن هنا تتشكل الأزمة: إذ تصبح الطبقة الحاكمة في منأى عن القانون وتكتسب، بحكم الواقع، سيادة فعلية (de facto)، بينما يتحول القانون المفروض على المواطنين إلى أداة للضبط والسيطرة لا للعدل والكرامة. وهذا ما يُسقط القانون من موضوعيته ويحول الدولة الحديثة إلى كيان لا يمكن تقييده لا بالدستور ولا بالعملية السياسية رغم ما تدعيه من فصل السلطات.

في ضوء هذا السياق، لا يبدو مستغربا أن يظهر الوجه الحقيقي للدولة الحديثة في صور استبدادية كما شهدنا في فاشيات القرن العشرين في أوروبا. فالمنظومة التي أسّست للاستعمار العالمي كانت هي نفسها الدولة الحديثة ذات السيادة المطلقة والتي كرّست الظلم والهيمنة باسم القانون والديمقراطية.

واليوم، ومع تراجع القوة الاستعمارية العالمية نشهد تصاعدا جديدا لنفس ملامح الفاشية ولكن هذه المرة في قلب ما يُعرف بـ “العالم الحر” وكأن دورة التاريخ تعيد نفسها ولكن بثوب جديد.

وفي ظل هذا المشهد المعقّد، يبدو أن البشرية أمام مفترق حاسم. فإما أن تواصل السير في طريق الأنظمة القانونية الوضعية التي فشلت في تحقيق العدل أو تعيد النظر في مفهوم القانون نفسه وتعود إلى مرجعية تساوي بين جميع البشر دون استثناء أو طبقية.
وهذه المرجعية لا يمكن أن تكون سوى الشريعة، باعتبارها القانون الإلهي الذي يُخاطب الإنسان بوصفه إنسانا لا بوصفه تابعا لنظام أو جنسية أو طبقة.

االمقال باللغة الأردية كتبه المفكر الباكستاني محمد دين جوهر وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا