آراء و مقالاتتعليم

جيل تائه بين الدرجات والواقع: أين أخطأنا؟

تعبيرية (Getty)

عبدالرؤوف حسين

لطالما رُوّج للمدرسة على أنها “مصنع العقول” المكان الذي يُعدّ الأفراد لمواجهة الحياة. غير أن الواقع يكشف لنا عن فجوة متزايدة بين ما يُدرّس في الفصول الدراسية وما يواجهه الإنسان لاحقا في حياته العملية والاجتماعية.
فما السبب في هذا التباين؟ وهل المنظومة التعليمية الحالية تُحرّر العقول فعلا أم تُقيّدها باسم النظام والانضباط؟

يعود أصل النظام التعليمي الحديث إلى القرن التاسع عشر وتحديدا إلى عصر الثورة الصناعية. حينها، كان الهدف الأساسي من التعليم هو إعداد عمال يلتزمون بالأوامر ويعملون وفق جداول صارمة. وقد صُمّم هذا النموذج ليخدم منظومة اقتصادية بعينها، لا لتطوير قدرات الفرد على الإبداع أو التفكير النقدي.
ورغم التحولات الكبرى التي شهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، لا يزال الشكل العام للتعليم كما هو يُركّز على التلقين والحفظ ويُهمل المهارات اللازمة لعصر المعرفة والابتكار.

من أبرز أوجه الخلل في التعليم التقليدي غياب الاعتراف بالفروق الفردية بين الطلاب. يُقيّم الجميع بناءً على معايير موحّدة، في تجاهل واضح لقدرات ومواهب قد لا تظهر في الامتحانات الورقية.
هذا ما أشار إليه عالم النفس الأمريكي هوارد جاردنر (Howard Gardner) في “نظرية الذكاءات المتعددة” التي تؤكد أن الذكاء ليس واحدا بل يتخذ أشكالًا عدة:
هناك الذكاء اللغوي (linguistic) وهو القدرة على التعبير بالكلمات وفهم اللغة بعمق ويظهر في الشعراء والخطباء والمذيعين.
يليه الذكاء المنطقي الرياضي (logical-mathematical) الذي يتجلى في حل المشكلات والتفكير المجرد ويبرع فيه العلماء والمهندسون.
أما الذكاء الشخصي الداخلي (intrapersonal) فهو فهم الإنسان لنفسه ومشاعره، بينما الذكاء الاجتماعي (interpersonal) يتمثل في القدرة على قراءة الآخرين وبناء علاقات فعالة.
ويأتي الذكاء الموسيقي (Musical-Rhythmic) ليرتبط بالحس الإيقاعي وتمييز النغمات، والذكاء البصري الفراغي (Visual-Spatial) في التصور الدقيق للأشكال والمساحات كما نراه لدى الرسامين والمعماريين.
وهناك أيضًا الذكاء الجسدي الحركي (Bodily-Kinesthetic) وهو قدرة الجسد على التعبير بإتقان ويظهر في الرياضيين والممثلين، إضافة إلى الذكاء الطبيعي (Naturalist) الذي يرتبط بالفهم العميق للطبيعة والكائنات الحية.
ولا ننسى الذكاء الوجودي (Existentialist) الذي يهتم بالتفكير في أسئلة الحياة والمصير، وأخيرا ذكاء التعليم (Teaching) وهو القدرة على تبسيط المعرفة ونقلها بفاعلية كما يتميز به المعلمون الحقيقيون.
ومع ذلك، تواصل المدارس التركيز على الذكاء اللغوي والمنطقي فقط ما يجعل الطلاب -ذوي الميول الفنية أو العملية- يشعرون بأنهم أقل كفاءة رغم ما يملكونه من إمكانيات.

تشير تقديرات تربوية إلى أن ما يقرب من 80% من المناهج المدرسية لا يجد الطالب لها تطبيقا مباشرا في حياته لاحقًا. في المقابل، تُهمل المناهج مهارات أساسية أصبحت ضرورية للنجاح في عالم اليوم مثل التفكير النقدي والذكاء العاطفي وإدارة المال الشخصي وريادة الأعمال والبرمجة والصحة النفسية.
هذا الغياب يعمّق الفجوة بين الخريج وسوق العمل ويؤدي إلى ضعف جاهزيته لمواجهة التحديات الحقيقية.

تُركّز المنظومة التقليدية على الامتحانات والدرجات كأدوات تقييم وحيدة ما يُنتج بيئة تعليمية تُغذّي الخوف من الفشل. كثير من الطلاب ينشأون وهم يعتقدون أن قيمتهم تُقاس بنتائجهم الدراسية فقط ما يقتل فيهم روح المبادرة ويهدم ثقتهم بأنفسهم.

يُغادر كثير من الشباب مقاعد الدراسة دون أن تكون لديهم رؤية واضحة لهويتهم أو طموحاتهم. لم يُدرَّبوا على التفكير المستقل ولا على اتخاذ القرار أو إدارة حياتهم الذاتية. لهذا، يُفضّلون انتظار الوظائف على خوض مغامرة ريادية ويخشون التغيير بدلا من التفاعل معه.

يُجمع الخبراء على أن سوق العمل الحديث لم يعد يكافئ الحاصلين على الشهادات فحسب بل يبحث عن أصحاب المهارات والمرونة.
في هذا السياق، يُطرح السؤال الجوهري: هل تُعلّمنا مدارسنا كيف نعيش ونواجه الحياة؟ أم فقط كيف نُطيع ونتّبع الأوامر؟ كم من الطاقات طُمست وكم من الموهوبين حُكم عليهم بالفشل لأن النظام لم يستوعبهم؟

التحول الحقيقي في التعليم لا يبدأ بتغيير المناهج فحسب بل بتغيير الفلسفة التي تحكمه. لا بد من تعليم يُشجّع على السؤال لا الحفظ ويُعزّز الاكتشاف لا التلقين ويُقدّر الفروق الفردية لا يُقصيها.
فالشهادات وحدها لا تبني الأوطان، إنما تبنيها عقول حرة وناقدة ومبدعة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا