
في الساعات الأولى من فجر الجمعة 13 يونيو 2025، نفّذت إسرائيل هجوما عسكريا واسع النطاق على أكثر من مائة موقع داخل إيران شملت منشآت نووية وقواعد عسكرية ومقار قيادية عليا أبرزها مقتل رئيس أركان الجيش الإيراني وقائد الحرس الثوري، إلى جانب عدد من العلماء البارزين في البرنامج النووي.
جاء هذا الهجوم قبل يومين فقط من انطلاق الجولة السادسة من المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، الأمر الذي يطرح تساؤلات حادة: لماذا اختارت إسرائيل هذا التوقيت؟ وهل تسعى فعلا إلى جرّ الولايات المتحدة إلى حرب لا تحمد عقباها؟
لا يمكن فصل هذا الهجوم الإسرائيلي عن سياق إستراتيجي طويل يمتد لعقود من التوتر بين طهران وتل أبيب. فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979 وقطيعة إيران مع الغرب، تبنّت إسرائيل موقفا عدائيا متصاعدا تجاه الجمهورية الإسلامية. وبالتوازي، لعبت الولايات المتحدة دور الحامي الإقليمي لإسرائيل ودعّمت سياسات “الاحتواء المزدوج” التي سعت إلى تحجيم إيران والعراق على السواء.
ومع صعود تيارات اليمين المتطرف في إسرائيل، تحولت سياسة “الردع” إلى مبدأ “الضرب الاستباقي” وهو ما رأيناه في الهجوم الأخير الذي لم يكن مجرد عمل عسكري تقليدي بل محاولة مكشوفة لإسقاط النظام في طهران عبر ضرب قلب القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية.
لأكثر من 25 عاما، استخدم بنيامين نتنياهو الخطاب النووي لتصوير إيران كـ”تهديد وجودي” رغم عدم وجود أي دليل موثوق على أن طهران تسعى فعلا لامتلاك سلاح نووي. وفي المقابل، تملك إسرائيل ترسانة نووية غير معلنة خارج نطاق الرقابة الدولية وترفض الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار.
الاتفاق النووي لعام 2015، ورغم ما مثّله من تقدم دبلوماسي كبير، تعرّض لهجوم شديد من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن ما أدى إلى انسحاب إدارة ترامب منه عام 2018 وعودة طهران تدريجيا إلى تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى وصلت إلى 60% في أواخر 2024.
الهجوم الإسرائيلي الأخير، والذي استهدف العلماء والمنشآت النووية، يكشف أن الهدف الحقيقي لم يكن منع “قنبلة إيرانية” – بل تعطيل العملية التفاوضية وفرض واقع جديد يُنهي أي احتمال لحل دبلوماسي. توقيت الضربة لم يكن اعتباطيا.
فعشية استئناف المحادثات النووية، كانت إسرائيل تدرك أن التوصل إلى اتفاق جديد سيعيد إيران إلى المشهد الدولي ويضع حدا لأحلام تل أبيب في الهيمنة الإقليمية المطلقة. نتنياهو راهن على صمت واشنطن وربما دعمها غير المعلن.
فالإدارة الجمهورية الحالية بقيادة دونالد ترامب، رغم إعلانها المتكرر بعدم الانخراط في حروب جديدة، لم تُدن الهجوم الإسرائيلي بل كشفت تقارير استخباراتية عن أن البيت الأبيض كان على علم مسبق بالعملية. لكن المفاجأة كانت في الرد الإيراني السريع وغير المسبوق والذي شلّ الحياة في تل أبيب وحيفا وأعاد تعريف قواعد الاشتباك في المنطقة.
إسرائيل اليوم في وضع استراتيجي شديد الهشاشة. فالهجوم لم يُسقط النظام الإيراني ولم يمنع تخصيب اليورانيوم بل منح طهران مبررا لزيادة نشاطها النووي دون التزامات. أما داخليا، فقد أصبح نتنياهو يواجه ضغوطا شعبية ودولية بعد العجز الواضح عن صدّ الهجوم الإيراني رغم تفوق بلاده التكنولوجي والعسكري.
وفي واشنطن، يتزايد الانقسام بين تيار صقوري يرى في الحرب خيارا ضروريا وتيار براغماتي – حتى داخل الحزب الجمهوري – يرفض الزج بالولايات المتحدة في حرب لا يمكن كسبها خصوصا في ظل الانكفاء الاستراتيجي الأمريكي عن الشرق الأوسط بعد حربي العراق وأفغانستان.
أمام هذا التصعيد الخطير، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
الأول: حرب استنزاف محدودة تستمر فيها الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل دون تصعيد شامل وهو سيناريو يعزز نفوذ إيران ويُنهك إسرائيل سياسيا وعسكريا. الثاني: تدخل أمريكي مباشر في محاولة لضرب المنشآت النووية الإيرانية وفرض اتفاق جديد لكنه تصعيد قد يشعل المنطقة بأكملها ويغلق مضيق هرمز ما قد يؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية. أما الثالث: فهو عودة إلى طاولة المفاوضات بعد استيعاب الجميع لحجم الخسائر من أجل التوصل إلى اتفاق مرحلي جديد يُجنب المنطقة الانفجار الكبير.
ما يجري اليوم ليس مجرد تصعيد عابر بين عدوين تقليديين بل نقطة تحول تاريخية في ميزان القوى الإقليمي. إسرائيل التي كانت لعقود صاحبة اليد العليا تواجه لأول مرة احتمال تآكل ردعها الاستراتيجي مقابل صعود قوة إقليمية ذات مشروع واضح رغم الحصار والعزلة.
أما الولايات المتحدة، فهي أمام امتحان أخلاقي وسياسي عسير: هل تنصاع لحكومة متطرفة تسعى لتفجير المنطقة؟ أم تعيد حساباتها بما يخدم أمنها القومي بعيدا عن أجندات الحروب؟
كما قال لينين ذات يوم: “هناك عقود لا يحدث فيها شيء وهناك أسابيع تحدث فيها تحولات توازي عقودا من الزمن.”
ويبدو أننا نعيش حاليا تلك الأسابيع المصيرية التي سترسم ملامح النظام الإقليمي القادم.
االمقال باللغة الإنجليزية نشره موقع “MEE” البريطاني وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة سعد ابراهيم والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.