
طوال عقود الحرب الباردة، بدت الصورة كما لو أن العالم يقف على حافة حرب نووية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وسائل الإعلام رسمت مشهدا متوترا يوحي بأن الزر النووي قد يُضغط في أي لحظة. لكن خلف هذا الضجيج كانت هناك لعبة أعصاب استخباراتية معقدة بين الـ”كي جي بي” السوفيتية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لا أكثر. فقيادات البلدين ظلت على تواصل دائم تحل الأزمات بالحوار لا بالصواريخ.
أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 كانت المثال الأبرز على ذلك. في الرواية الغربية السائدة، يُقال إن السوفييت أرسلوا صواريخهم إلى كوبا سرا ثم تراجعوا تحت الضغط الأمريكي بينما الحقيقة مختلفة.
فالولايات المتحدة كانت قد نشرت قبلها صواريخ نووية في تركيا وإيطاليا. عندما علم خروتشوف من جهاز المخابرات السوفيتي بهذه الخطوة، أمر بنشر صواريخ في كوبا بشكل علني لتلتقطها طائرات التجسس الأمريكية.
وعندما اعترض كينيدي، رد عليه خروتشوف بعبارة حاسمة: “وصواريخكم في تركيا، هل هي خضروات؟”.
انتهت الأزمة باتفاق سري يقضي بأن يزيل الطرفان صواريخهما وأن تتعهد واشنطن بعدم محاولة تغيير النظام في كوبا. ومنذ ذلك الوقت، لم تتجاوز الولايات المتحدة حدود الحصار البحري، كما أشار إليه المحلل العسكري الباكستاني “رعايت الله فاروقي” في مقال نشره موقع “We News“.
تلك الأزمة كانت نقطة التحول في العلاقات النووية بين القوتين. إذ بدأت مفاوضات للحد من الخطر النووي وتُوجت عام 1972 بمعاهدة “مضادات الصواريخ الباليستية” (ABM Treaty). نصت المعاهدة على منع بناء أنظمة دفاعية قادرة على اعتراض الصواريخ النووية.
الفكرة كانت بسيطة: إذا امتلك أحد الطرفين درعا دفاعيا فسيشعر بالأمان الكافي لشن هجوم أول مما يخل بتوازن الردع الذي يقوم عليه السلام النووي.
بعدها بسنوات، في ديسمبر 1987، وُقعت معاهدة “القوى النووية متوسطة المدى” (INF Treaty) التي ألزمت الطرفين بتدمير كل الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر. وفعلا، أُتلف أكثر من 2600 صاروخ حتى عام 1991 في خطوة غير مسبوقة في تاريخ سباق التسلح.
لكن سقوط الاتحاد السوفيتي غيّر كل شيء. الاقتصاد الروسي انهار والنفوذ الأمريكي تمدد. ومع مطلع الألفية الجديدة، أعلن الرئيس جورج بوش عام 2002 انسحاب بلاده من معاهدة 1972 وبدأ تطوير نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي مستغلا فراغ القوة في موسكو.
لم يدم هذا التوازن طويلا. في عهد فلاديمير بوتين استعادت روسيا قوتها تدريجيا وطردت النفوذ الاقتصادي الأمريكي من الداخل. ثم حددت خطها الأحمر بوضوح: أوكرانيا.
إعلان الغرب نيته ضم كييف إلى الناتو كان الشرارة التي فجرت المواجهة الحالية.
في الأثناء، وقعت واشنطن وموسكو عام 2010 معاهدة “نيو ستارت” (New START) للحد من الأسلحة الاستراتيجية. نصت على تقليص عدد الرؤوس النووية إلى 1550 لكل طرف. لكنها كانت معاهدة محدودة المدة بعشر سنوات فقط، بخلاف معاهدات الحرب الباردة الدائمة. هذا القيد الزمني كشف عن تغير في طبيعة الثقة بين الطرفين وأظهر أن المعادلة الجديدة أصبحت أكثر هشاشة.
ثم جاءت التطورات الميدانية لتكشف حجم التراجع الأمريكي. الحرب الأوكرانية كشفت محدودية تأثير العقوبات الغربية فيما أعادت روسيا إطلاق سباق تسلح جديد أكثر تطورا. طورت نظام الدفاع الجوي “إس-500” الذي يعد الأفضل عالميا وأنتجت صاروخ “سارمات” بمدى يصل إلى 18 ألف كيلومتر وسرعة تتجاوز 25 ألف كيلومتر في الساعة، إضافة إلى الصاروخ الأسرع “أفان جارد” بسرعة 33 ألف كيلومتر في الساعة.
لكن الأخطر ليس في السرعة بل في التقنية الجديدة التي تجعل الموت غير مرئي. فالصاروخ النووي “بوريوفيستنيك“، العامل بمحرك نووي، يستطيع البقاء في الجو لأشهر دون توقف فيما يجوب الطوربيد النووي “بوسيدون” أعماق المحيطات ليحدث انفجارا إشعاعيا قادرا على محو مدن ساحلية بأكملها.
اليوم، بعد ثلاثة عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي، يقف الغرب أمام نتيجة معكوسة. الحلم الأمريكي بالهيمنة الكاملة تحوّل إلى عبء مالي هائل تجاوز 37 تريليون دولار. أما واشنطن، فباتت تتعامل مع التهديد النووي الروسي بارتباك واضح بين تصريحات متناقضة وردود أفعال متسرعة.
المشهد الحالي يثبت أن من يعبث بمعادلات الردع لا يحصد أمنا بل فوضى. فالحرب الباردة انتهت، لكن سباق التسلح عاد بثوب أخطر حيث لا أحد يضمن من يملك اليد العليا غدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News




