آراء و مقالات

العبودية الناعمة: كيف أصبح الإنسان عبدا باختياره؟

تعبيرية (ibanet)

ثاقب أحمد

في عالم يُروَّج له بأنه بلغ قمة التحضر والحرية الفردية، تبرز مفارقة مؤلمة: لم نكن يوما أسرى بقدر ما نحن عليه الآن. صحيح أن سلاسل الحديد قد سقطت وأن أسواق العبيد قد أُغلقت منذ قرون لكنّ العبودية لم تندثر بل غيّرت شكلها وتسللت إلى أنماط حياتنا اليومية لتغدو أكثر تطبيعا و”قبولا اجتماعيا”.
إنها عبودية ناعمة نرتديها طوعا ونُصفّق لها تحت مسمى “الحياة الحديثة“.

الواقع أن الفرد المعاصر لم يعد بحاجة لمن يُقيده جسديا؛ تكفيه قروض طويلة الأجل تربطه بأعباء مالية لعقود قادمة. من السهل أن تُقنعه بأن منزلا أكبر أو سيارة فاخرة أو حتى هاتفا من طراز جديد، هو معيار نجاحه الاجتماعي. وهكذا، يتحول إلى آلة تعمل بلا توقف لسداد ديون اختارها بمحض إرادته لكن تحت تأثير ضغط تسويقي وثقافي لا يرحم.

الإدمان الرقمي أيضا يشكل سجنا عصريا آخر لا يُقيد الأجساد بل يُصيب العقول. شبكات التواصل الاجتماعي باتت تلتهم وعي الإنسان وتُشغله بمحتوى سطحي ومكرر وسريع الزوال، يُشبع حاجته اللحظية للانتباه لكنه يحرمه من بناء تفكير نقدي أو وعي عميق. إنها حلقة مفرغة من الترفيه المؤقت تُؤجل مواجهة الذات وتُخدّر الطموح وتُبرمج العقول على الاستهلاك بدل الإنجاز.

النظام التعليمي التقليدي لا يقلّ خطورة؛ فما زالت مؤسسات التعليم في معظم المجتمعات تُنتج “منفذين جيدين” لا “مبدعين أحرارا”. الطالب الذي يحفظ هو الناجح بينما من يُفكر ويشكك يُعدّ متمردا أو مصدر إزعاج. بهذه الطريقة، تتم برمجة العقول منذ الطفولة على الطاعة لا الابتكار، وتُكرَّس التبعية الفكرية تحت غطاء التحصيل العلمي.

أما الوظيفة، ذلك النموذج المستقر الذي يُنظر إليه كأقصى درجات الأمان فهي غالبا ما تتحول إلى نمط من الاستعباد الذهني. يعيش الموظف حياته داخل دوامة روتينية لا تترك له فسحة للتجديد أو التطور يلتزم بأوقات ومهام محددة، ويقنع نفسه بأن الراتب الشهري كافٍ لضمان الاستقرار بينما هو في الحقيقة سجنٌ ناعم يمنعه من بناء استقلالية حقيقية.

ثقافة الاستهلاك تشكّل ركيزة أساسية في هندسة هذه العبودية. فالمجتمع يُقنع أفراده بأن قيمتهم تتحدد بما يرتدونه أو يملكونه لا بما يقدمونه أو يبدعونه. وكل منتج جديد يُباع على أنه “مفتاح السعادة” وكل ماركة تتحول إلى معيار للقبول الاجتماعي. وبهذا تُصبح الذات مرهونة بالشراء ويغدو الإنسان مجرد مستهلك يسعى لإرضاء توقعات لا تنتهي.

الإعلام بدوره يلعب دور “المُهندس العاطفي” في هذا المشهد. لم يعد مجرد ناقل للأخبار بل أصبح أداة توجيه للمشاعر ومُحددا مسبقا لما ينبغي أن نصدقه أو نخافه أو نتعاطف معه. يتم توجيه الرأي العام، لا وفق الحقائق بل حسب أجندات قوى خفية. فتُصنع الأعداء وتُزرع المخاوف وتُعاد برمجة وعي المجتمعات تحت سطوة الصور والمحتوى الموجّه.

ومع كل هذا، يُطلق المجتمع على هذا النمط من الحياة وصف “الطبيعي“. الاستيقاظ، العمل، العودة، النوم والتكرار… هو نموذج الحياة اليومية الذي يُبارك له الجميع دون أن يدركوا أنه يقتل الشغف ويُطفئ الإبداع ويُخدّر الحلم. إننا نعيش في زمن يغتال المعنى ويمنح الشكل الأولوية ويُكافئ الالتزام بالنمط، لا الخروج عليه.

التحرر من هذه العبودية الحديثة لا يبدأ بإسقاط الأنظمة بل بإعادة النظر فيها. لا بثورات خارجية بل بثورة وعي داخلية. كسر هذه القيود يبدأ بالسؤال: هل أنا أعيش حياتي باختياري؟ أم أنني أُنفّذ سيناريو كُتب لي مسبقا؟ هل خياراتي حقيقية أم موجهة؟ وهل ما أسميه “استقرارا” هو في الحقيقة خوف من التغيير؟

في النهاية، الإنسان في عصرنا ليس حرا ما لم يُدرك حجم ما فُرض عليه من أنماط تفكير ومعيشة. تلك هي معركتنا الكبرى: أن نعيد لأنفسنا حريتنا من داخل السلاسل التي لا تُرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا