آراء و مقالات

الدولة العميقة في أمريكا: تفكيك بنية القرار السياسي تحت النفوذ المالي

تعبيرية (AFP)

لطالما قُدمت الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها مهد الديمقراطية وحارس الحريات في العالم، لكن الواقع يكشف صورة مغايرة تماما. فالقوة الحقيقية في هذا البلد لا تسكن البيت الأبيض ولا تُدار من قاعات الكونجرس بل تنبع من المراكز المالية الضخمة في وول ستريت حيث تتحكم النخبة المالية في كل خيط من خيوط السياسة الأمريكية.

هؤلاء الأباطرة الماليون، وفي مقدمتهم اللوبي اليهودي لا يكتفون بتوجيه القرار الاقتصادي بل يفرضون أجنداتهم على الساسة والإعلام والجامعات ومراكز الأبحاث وحتى القضاء. لقد أصبح النظام السياسي في الولايات المتحدة مُصمما بطريقة تُعلي من سلطة المال على حساب إرادة الشعب.
فالرئيس لا يُعد زعيما مستقلا بل مديرا تنفيذيا يعمل ضمن شروط محددة وتبقى ولايته رهينة رضا المموّلين الذين أوصلوه إلى كرسي الحكم.

من هنا، لا يبدو مستغربا أن نرى رؤساء يتم الدفع بهم خارج المشهد السياسي بقرار من ممولي الحملات الانتخابية كما حدث مع الرئيس السابق جو بايدن. ولا غرابة في أن تُطرد قيادات جامعية كبرى لأن الطلبة تجرأوا على التعبير عن تضامنهم مع فلسطين. حتى الدستور الأمريكي الذي يضمن حرية التعبير، بات يُفرّغ من مضمونه متى ما تعارض مع مصالح تلك اللوبيات ويُشرّع الكونجرس قوانين تُجرّم النقد لسياسات إسرائيل تحت ضغط جماعات النفوذ.

الرئيس دونالد ترامب قدّم نفسه في البداية باعتباره متمردا على هذا النظام. وعد بقطع نفوذ أباطرة وول ستريت وإنهاء الحروب الخارجية التي لا طائل منها. حتى في تشكيل إدارته، ضمّ شخصيات تُعرف بمواقفها المعارضة لتلك اللوبيات.
لكن سرعان ما تراجع عن وعوده وبدأت الانعطافة واضحة خلال الأشهر الستة الأولى من رئاسته. فما كان يُروج له من إنهاء النزاعات تحوّل إلى انخراط مباشر في تصعيدات جديدة سواء في أوكرانيا أو تجاه إيران مع استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل رغم ما ترتكبه من فظائع في غزة.

بل إن ترامب الذي وعد بإنهاء حرب أوكرانيا في يوم واحد، مدّد المدة إلى مئة يوم ثم مئة أخرى، إلى أن أعلن مؤخرا استمرار تزويد أوكرانيا بالسلاح متراجعا بالكامل عن مواقفه السابقة. حتى خطابه “الدرامي” حول الهجوم على منشآت إيران النووية والذي قدّمه أمام نائبه ووزيرَي الدفاع والخارجية لم يلقَ إلا السخرية. إذ تبين لاحقا أن الأهداف الإيرانية لم تتأثر فعليا بل إن طهران نفسها أعلنت بفخر أن منشآتها لم تُصب بسوء.

حين تبدأ وسائل الإعلام الأمريكية بالسخرية الجماعية من موقف أو تصريح، فإن ذلك غالبا ما يعكس تعليمات من “الجهة العليا” – أي أصحاب المال والنفوذ.
وهكذا، أصبح ترامب محل تندّر ثم تحوّلت السخرية إلى ضغوط صريحة: عليك أن تُكمل ما بدأت. ومهما بدا ترامب رافضا إلا أن المراقبين يُجمعون على أن ضربة جديدة ضد إيران لا تزال احتمالا قويا مطروحا على الطاولة.

ويبقى السؤال الجوهري مطروحا: إذا كانت هذه الحروب تُشعلها اللوبيات طمعا في المال والسيطرة، فلماذا تنخرط كل مؤسسات الدولة العميقة – من الجيش إلى الإعلام – في دعمها؟
الإجابة التي طرحها مفكرون كنعوم تشومسكي وجوليان أسانج هي أن ميزانية الدفاع الأمريكية تحولت إلى “آلة غسيل أموال” ضخمة. فالحرب بما تجره من عقود تسليح وإعمار ومشاريع استخباراتية، أصبحت مشروعا اقتصاديا يُثري الآلاف من الشركات والأفراد.
ولهذا، تبقى أمريكا في حالة حرب دائمة حتى وإن غرق اقتصادها في الديون التي تجاوزت 36 تريليون دولار.

إن ما جرى في الجامعات الأمريكية مؤخرا يعكس بشكل صارخ كيف يُكمم الأفواه في بلد يُفترض أنه يقدّس حرية التعبير. رؤساء جامعات أُقيلوا وطلاب هُددوا وقوانين شُرعت، كل ذلك لأن البعض تجرأ على الدفاع عن الفلسطينيين. هذه ليست ديمقراطية بل ديكور تُدير خلفه اللوبيات المسرح الحقيقي.

الرئيس الأمريكي مهما بدا قويا، يبقى محكوما بشبكة المصالح والتمويلات والولاءات. لم يعد حرا في اتخاذ القرار ولا مستقلا في التوجه. وإن تمرد، جرى عزله سياسيا أو تدميره إعلاميا.

الحقيقة أن العبودية السياسية لم تنتهِ بل ارتدت حُلة جديدة. عبودية مغلفة بالشعارات وملوّنة بالأعلام لكنها أكثر شراسة من ذي قبل. فحين يتحكم المال في السياسة ويتحول الدستور إلى ورقة قابلة للتعديل حسب الأهواء، يصبح الحديث عن الحرية والوطنية مجرد وهم جميل.

ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن لأمة تُحكم كالمصنع وتُدار كالشركة أن تظل قائدة للعالم الحر؟

المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا