
تُواصل تركيا، في عام 2025، تعزيز مكانتها كقوة إيجابية وفاعلة في منطقة مضطربة وفي نظام عالمي يتغير بوتيرة متسارعة. مدفوعةً بإرثها الدبلوماسي وتصميمها على إحلال السلام، تعمل أنقرة على مد جسور التعاون وتفعيل الحوار سواء على الصعيد الإقليمي أو الداخلي لتمهيد الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا للجميع.
الدبلوماسية الوقائية والوساطة: ركائز السياسة الخارجية التركية
في ظل التنافس المتزايد على النفوذ وعدم رغبة بعض القوى الكبرى في الاضطلاع بمسؤولياتها التقليدية، تجد القوى المتوسطة مثل تركيا مساحة أوسع للتحرك. وقد استثمرت أنقرة هذه المساحة بفاعلية، متبنيةً سياسة خارجية استباقية تعتمد على الدبلوماسية الوقائية والوساطة وهو ما يتوافق تماما مع الأدوار الإيجابية التي يمكن أن تلعبها هذه الدول في فترات عدم اليقين.
تُعد تركيا مثالا بارزا على دولة تسعى للحفاظ على التوازن والمساهمة في استقرار منطقتها. يتجلى ذلك بوضوح في جهودها المتواصلة للوساطة في النزاعات المختلفة مثل الدور الحيوي الذي لعبته في ممر الحبوب الأوكراني وفي عمليات تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة وحتى في المفاوضات المعقدة حول انضمام السويد إلى حلف الناتو. كما لعبت تركيا دورا ميسرا في التقارب السعودي-الإيراني مما يؤكد قدرتها على جمع الأطراف المتباعدة على طاولة الحوار. هذه التحركات لا تهدف فقط إلى تحقيق مكاسب آنية بل تعكس التزاما أعمق بتهدئة التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
لتقييم السياسة الخارجية لتركيا كقوة متوسطة، من المفيد التركيز على نقطتين أساسيتين. الأولى هي السؤال عما إذا كانت تركيا تمتلك القدرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لاتباع سياسة خارجية استباقية، والثانية هي ما إذا كان صانعو السياسة الأتراك مستعدين للاضطلاع بمثل هذا الدور.
تتمتع تركيا بهذه الإمكانية الأساسية، فبصفتها دولة ذات أغلبية سكانية مسلمة ولكنها علمانية وديمقراطية وبصفتها فاعلا شارك في الهياكل المؤسسية الرئيسية للعالم الغربي مثل الناتو ومجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحصلت على وضع المرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي اعتبارا من عام 1999.
ومع ذلك، نلاحظ أن السياسة الخارجية التركية تمر بفترة أصبحت فيها التحركات العسكرية أكثر بروزا وبدأت قوة تركيا الناعمة تتراجع، سواء في سياق الديناميكيات الإقليمية المتغيرة مع انتفاضات الربيع العربي أو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن المشاكل التي حدثت في المجال الاقتصادي وفي المعايير الديمقراطية للبلاد أثرت سلبا على تصور قوة تركيا الناعمة. بالنظر إلى العقد الأخير من تاريخ تركيا، نرى أن سياستها الخارجية التي تركز على أن تكون قوة إقليمية طموحة قد استمرت ولكن هذه الرؤية قد تشكلت بشكل أكبر حول عناصر القوة الصلبة مثل عمليات مكافحة الإرهاب عبر الحدود التي نُفذت في العراق وسوريا والتعاون العسكري الذي تم تطويره مع بلدان مختلفة واستثمارات وصادرات صناعة الدفاع.
استراتيجية الاستقلالية: جسر بين الشرق والغرب
لطالما سعت تركيا إلى تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية في سياستها الخارجية، مدفوعةً بالاعتقاد بأن الاعتماد الكامل على طرف واحد قد لا يكفي لحماية مصالحها. وقد تجلى هذا في سياستها المتوازنة بين روسيا وأوكرانيا وإصرارها على مصالحها الوطنية في عملية انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو ومقاربتها المستقلة في سوريا بعيدا عن الغرب وروسيا. هذا التوازن سمح لتركيا بأن تصبح أحد الفاعلين الرئيسيين الذين تُلتمس آراؤهم في حل المشاكل ضمن الجغرافيا الواسعة المحيطة بها.
بصفتها دولة تجمع بين الموروث الإسلامي والهيكل العلماني الديمقراطي وتُعد عضوا في حلف الناتو ومرشحا للاتحاد الأوروبي، تُمثل تركيا جسرا فريدا بين الحضارات. هذه الميزة الجيوستراتيجية والثقافية تمنحها قدرة فريدة على إقامة حوارات بناءة مع مختلف الأطراف، من الغرب إلى روسيا والصين ودول الخليج ومنظمة الدول التركية.
إن قدرتها على تطوير علاقات متوازنة مع هذه الأطراف مع الحفاظ على عضويتها في التحالفات الغربية، يضيف قيمة حقيقية لدورها كفاعل دولي موثوق.
عادةً ما تُذكر تركيا جنبا إلى جنب مع دول مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وفيتنام. وقد شكلت الحرب الروسية الأوكرانية مثالا جيدا جدا على السياسات المستقلة للقوى المتوسطة. فمع الحرب، رأينا الهند ترفض مواجهة روسيا علانية؛ وإسرائيل تحافظ على علاقاتها الجيدة مع روسيا وترفض بيع الأسلحة لأوكرانيا لفترة طويلة.
من ناحية أخرى، لم تتمكن الولايات المتحدة من وقف عملية التقارب بين إيران والسعودية بوساطة صينية؛ ولم تستطع منع مبادرات دول الخليج لتطبيع العلاقات مع النظام السوري قبل سقوط الأخير؛ ولم تستطع إقناع إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة.
إقرأ أيضا: كيف يوظف أردوغان الخيال التاريخي لصناعة واقع استراتيجي جديد؟
لقد اتبعت تركيا سياسة توازن حساسة بين روسيا وأوكرانيا واتبعت سياسة مستقلة في عملية انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو وفرضت مصالحها الوطنية واتبعت سياسة مستقلة في سوريا بعيدا عن الغرب وروسيا وأصبحت اليوم إحدى الدول الوحيدة التي تدعم المعارضة التي وصلت إلى السلطة في سوريا.
إن سياسة الاستقلالية الاستراتيجية والتوازن التي تتبناها تركيا كقوة متوسطة تنطبق أيضا على مقاربتها للتنافس بين القوى الكبرى. وقد أدى هذا الوضع إلى اتباع البلاد استراتيجية توازن بين الصين والولايات المتحدة. مع إطلاق “مبادرة آسيا الجديدة” في عام 2019، وجهت تركيا نشاطها ومجال تأثيرها نحو دول جنوب وجنوب شرق آسيا واعتمدت مقاربة متعددة الأطراف ومتعددة المستويات تجاه المنطقة.
السلام الداخلي: من الأسلحة إلى الديمقراطية
تركيا جزء من مجتمع الدول الأوروبية منذ توقيع معاهدة باريس عام 1856. ومنذ فترة الجمهورية المبكرة، حددت تركيا، تحت تأثير الإرث التاريخي للتغريب من الفترات المتأخرة للإمبراطورية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل الأمن والهوية أن تصبح عضوا في المؤسسات والهياكل الغربية. وبالفعل، تجسدت هذه العملية التي امتدت لعقود مع عضوية الناتو في عام 1952 وأصبحت تركيا جزءً من نوادي التعاون في العالم الغربي.
يتوازى الدور التركي الإيجابي في الساحة الدولية مع تحولات تاريخية على الصعيد الداخلي حيث تتجه الأنظار إلى عام 2025 كعام فارق في مسار السلام. لقد كانت إشارات التقارب مثل مصافحة زعيم حزب الحركة القومية لنواب حزب الشعوب الديمقراطي في أكتوبر 2024، تبعث الأمل.
وتبع ذلك الكشف عن مذكرة النقاط الثماني في 28 ديسمبر 2024 الناتجة عن لقاءات بين نواب حزب الشعوب الديمقراطي وعبد الله أوجلان مما أكد على أن تركيا تمضي قدما في عملية تستهدف إنهاء صراع دام لعقود.
هذا المسار الذي أُطلق عليه “عملية السلام والحل الديمقراطي”، يستفيد من دروس مستخلصة من تجارب عالمية في بناء السلام. يؤكد الخبراء أن السلام الدائم يتجاوز مجرد إسكات الأسلحة ويتطلب معالجة شاملة لأوجه عدم المساواة وبناء الثقة في المجتمع. التركيز ينصب على التغلب على “مخاوف الانقسام” في المجتمع التركي و”مخاوف الخداع” في المجتمع الكردي من خلال بناء الثقة التدريجي ومعالجة القضايا الصعبة في وقت لاحق.
نحو ثقافة السلام: الشفافية، التأطير والاعتراف بالهويات
إن نجاح عملية السلام يعتمد بشكل كبير على الشفافية وإعادة تأطير الخطاب العام. يجب أن تُشرح العملية للمجتمع بلغة تُركز على “المكاسب المتبادلة والتمكين” بدلا من “فقدان القوة أو التنازل”. وهنا، لا يقتصر الدور على الحكومة وحدها بل يمتد ليشمل المجتمع المدني، وسائل الإعلام، الفنانين وحتى القطاع الخاص لتشكيل رواية شاملة للسلام.
كما تُعد قضية الاعتراف بالهويات وإعادة تعريف المواطنة المتساوية حجر الزاوية في بناء سلام دائم. يُقترح نموذج يعتمد على إطار دستوري يُعزز شعور الأتراك والأكراد بالثقة المتبادلة مستلهما تجارب دولية ناجحة في هذا المجال.
2025: عام الفعل والأمل
مع دخول عام 2025، تبدو تركيا عازمة على جعل هذا العام نقطة تحول حقيقية. إن تركيزها على الدبلوماسية الوقائية ودورها كوسيط وسعيها الحثيث نحو السلام الداخلي، يضعها في موقع فريد لقيادة الجهود نحو عالم أكثر استقرارا.
إن الأمل يكمن في تحويل هذه الطموحات إلى واقع ملموس من خلال العمل المشترك بين جميع الأطراف المعنية لجعل عام 2025 “عام وداع الأسلحة والصراعات ومرحبا بالسلام” في تركيا والمنطقة والعالم أجمع.
كتابة وإعداد: ميرنا محمود
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.