آراء و مقالاتالذكاء الاصطناعيحوار

قصة المدربة الوهمية جيسيكا ريدكليف تضع الإعلام أمام تحدي ما بعد الحقيقة

صورة: intersys

خلال الأيام الماضية اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجة من الجدل بعد انتشار مقطع فيديو مثير للدهشة يُزعم فيه أن مدرّبة حيتان تُدعى جيسيكا ريدكليف (Jessica Radcliffe) فقدت حياتها أثناء عرض مباشر بعدما انقضّ عليها الحوت القاتل الذي كانت تدربه.

ويظهر في المقطع أن المدرّبة فقدت توازنها وسقطت في المياه ثم بدا وكأن الحوت ابتلعها بالكامل، الأمر الذي أثار تعاطفا واسعا ودفع ملايين المستخدمين إلى مشاركة الفيديو والتعبير عن صدمتهم. غير أن التحريات الصحفية أوضحت أن القصة مختلقة بالكامل.
فقد أكدت وسائل إعلام دولية أن الفيديو مصنوع باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وأن المكان الذي ظهر فيه لا وجود له في الواقع، كما لم يتم العثور على أي شخصية تحمل اسم جيسيكا ريدكليف. بمعنى آخر، ما تم تداوله مجرد حبكة وهمية صُممت خصيصا لجذب الانتباه على منصات التواصل.

هذه الواقعة تعكس الوجه المظلم لتقنيات “التزييف العميق” (Deep Fake) التي لم تعد محصورة في نطاق الترفيه أو التجارب الإبداعية، وإنما تحولت إلى أداة قادرة على تضليل الرأي العام وهزّ الثقة في الأخبار والمؤسسات. والمخاطر تجاوزت المجال الإعلامي لتصل إلى السياسة حيث تُستخدم المقاطع المزيفة لتشويه سمعة قادة والتأثير على الانتخابات أو خلق أزمات دبلوماسية. وتشير دراسات حديثة إلى أن التقنية ذاتها قد تُستغل في الاحتيال المالي أو لاختراق قطاعات حساسة مثل المصارف والرعاية الصحية.

اجتماعيا، برزت ظواهر مقلقة مثل تطبيقات “تجريد الصور” التي انتشرت في بعض المدارس الغربية وتنتج صورا إباحية مزيفة للطلاب والطالبات مسببة موجات ابتزاز وتنمر مأساوية وصلت في بعض الحالات إلى الانتحار. ويرى خبراء أن مواجهة هذه الأزمة تستلزم سياسات تضع الضحية في صدارة الاهتمام مع ضرورة تطوير أطر قانونية لحماية المتضررين بدلا من الاكتفاء بردود أفعال آنية.

اقتصاديا، يزداد خطر استغلال الديب فيك في عمليات احتيال ضخمة عبر انتحال شخصيات كبار المديرين التنفيذيين. فقد سُجلت خسائر بملايين الدولارات بسبب أوامر تحويل مالي مزيفة مدعومة بتسجيلات صوتية ومرئية شديدة الإقناع. ورغم هذه المخاطر، تكشف الإحصاءات أن غالبية الشركات حول العالم ما زالت تفتقر إلى خطط واضحة للتعامل مع هذه التهديدات.

على الصعيد التشريعي، بدأت بعض الدول بالتحرك. ففي الولايات المتحدة صدر قانون “Take It Down Act” الذي يجرّم نشر المقاطع الإباحية المزيفة ويُلزم المنصات بإزالتها خلال 48 ساعة. كما أقرّت ولايات مثل ميشيغان عقوبات بالسجن والغرامة على منتجي وموزعي المحتوى المزيف الجنسي. ورغم هذه الخطوات، ما زالت المنظومة القانونية العالمية متفرقة وغير متكاملة، الأمر الذي يترك ثغرات يستغلها المجرمون.

التواصل الاجتماعي

المفارقة أن الذكاء الاصطناعي الذي أتاح إنتاج هذه التهديدات، هو نفسه جزء من الحل عبر تطوير تقنيات التتبع البيومتري والعلامات المائية الرقمية وأنظمة الكشف متعددة الوسائط. إلا أن خبراء الأمن يؤكدون أن السباق بين صانعي التزييف ومطوري أدوات الكشف سيستمر طويلا حيث يتطور التزييف بوتيرة أسرع من قدرات المراقبة.

في مواجهة هذا الواقع، يظل الإعلام مطالبا بدور محوري: ليس فقط في كشف الزيف وإنما أيضا في صون الثقة العامة. غرف الأخبار تحتاج إلى تشديد معايير التحقق وعدم الانجرار وراء المشاهد المثيرة قبل التأكد من مصدرها.
أما المنصات الرقمية فعليها تطوير خوارزميات تحدّ من انتشار المواد المشبوهة إلى حين التثبت منها مع إضافة وسوم واضحة للمحتوى المضلل. ويبقى الجمهور الحلقة الأهم إذ لا غنى عن وعي نقدي يجعله يتوقف قبل إعادة نشر أي مادة صادمة.

حادثة جيسيكا ريدكليف الوهمية لم تكن قصة ترفيهية عابرة بل جرس إنذار يُظهر هشاشة الحقيقة في فضاء رقمي مفتوح على جميع أشكال التزييف.
الديب فيك أصبح واقعا حاضرا يعيد تشكيل علاقتنا بالأخبار والتصدي له يحتاج إلى منظومة متكاملة من التشريعات الرادعة وثقافة تحقق راسخة وإعلام مسؤول يحافظ على البوصلة في زمن تتقاطع فيه الحقيقة مع الوهم.

إعداد وكتابة: نجلاء إسماعيل

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى