
شهدت السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولا جديدا إذ عاد مجددا إلى خيار الحوار الودي مع روسيا بعد فترة من الخطاب المتشدد الذي بدا فيه أقرب إلى تيار “المحافظين الجدد“.
هذا التحول أثار موجة واسعة من الجدل، سواء في الأوساط الأمريكية أو في العواصم الأوروبية حيث ينظر إليه البعض كعودة إلى منطلقاته الأولى التي بشّر بها مع بداية ولايته الثانية بينما يراه آخرون مجرد مناورة ظرفية فرضتها التطورات الميدانية في أوكرانيا.
عندما استهل ترامب ولايته الثانية، أعلن بوضوح أنه يسعى إلى إطفاء بؤر التوتر عبر العالم وهو خطاب لاقى ترحيبا من دعاة السلام. غير أن هذا الخطاب لم يدم طويلا، إذ سرعان ما تبنّى مواقف صدامية أعطت انطباعا بأنه أصبح أقرب إلى المحافظين الجدد الذين ينظرون إلى الحروب بوصفها أداة لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.
ومع ذلك، يبدو أن التطورات الميدانية الأخيرة في أوكرانيا حيث تمكنت روسيا من تحقيق اختراقات كبيرة باتجاه قلب النظام السياسي في كييف، دفعت ترامب إلى إعادة حساباته. فالتقدم الروسي وضع الأوروبيين في موقف دفاعي وأجبر واشنطن على التفكير في مسار جديد ينقذ ماء وجهها من دون أن تتحمل عبء “الهزيمة السياسية”.
رغم الانطباع العام بأن ترامب انساق خلف خطاب المحافظين الجدد، تشير بعض القراءات إلى أن ذلك كان مجرد تكتيك يهدف إلى امتصاص الضغوط الأوروبية.
فخلف الكواليس، لم تتوقف قنوات التواصل الأمريكية ـ الروسية وهو ما يفسر الهدوء الذي قابلت به موسكو تصريحات ترامب المتشددة. هذا التوازن بين الخطاب العلني والمحادثات السرية منح ترامب هامشا واسعا للمناورة حتى جاءت اللحظة المفصلية بدعوة الرئيس فلاديمير بوتين لزيارة ألاسكا في خطوة حملت دلالات رمزية وسياسية كبيرة.
زيارة بوتين إلى ألاسكا لم تكن عادية. فقد كسر ترامب ثلاث قواعد بروتوكولية راسخة: فرش السجادة الحمراء وهو تقليد لا يُمنح عادة لزعماء الدول الأجنبية. الاستقبال الشخصي في المطار وهو أمر نادر لم يفعله الرؤساء الأمريكيون منذ عقود. مرافقة جوية لطائرة بوتين من قبل القوات الجوية الأمريكية داخل الأجواء الأمريكية في إشارة رمزية إلى التكريم أكثر من كونها مجرد حماية أمنية.
هذه الخطوات، إضافة إلى الحفاوة اللافتة بين الزعيمين، رسمت صورة مختلفة تماما عن نبرة التهديد والتصعيد التي صدرت عن ترامب قبل أيام قليلة فقط.
يبقى السؤال: من الرابح من قمة ألاسكا؟ معارضو ترامب يرون أن بوتين خرج منتصرا لأنه تخلّص من “عزلته” الدولية. غير أن هذا الطرح يبدو سطحيا، فبوتين يُعد زعيما لما يُعرف بالجنوب العالمي الذي يضم أكثر من 80% من دول العالم وبالتالي لم يكن معزولا بالمعنى الواقعي.
الحقيقة أن كلا الرئيسين حقق مكاسب أولية: بوتين انتزع تنازلا أمريكيا عن مطلب وقف إطلاق النار حيث اتُفق على الانتقال مباشرة إلى مفاوضات سلام. وترامب من جانبه، حافظ على صورته كوسيط لا كطرف في النزاع وهو موقف لم تعترض عليه موسكو ما يمنحه مساحة للاستمرار في لعب دور “صانع السلام” من دون أن يتحمل كلفة التورط المباشر.
لكن هذه المكاسب تبقى “ناقصة”، إذ لم تقترب بعد من معالجة “الأسباب الجذرية” للنزاع وهي النقطة التي تصر موسكو على أنها أصل المشكلة.
فإذا انتقلت المفاوضات في المستقبل إلى هذه المرحلة سيكون على ترامب مواجهة مأزق حقيقي لأن الاعتراف بها سيضع أمريكا في موقع الطرف لا الوسيط ويهدد مصالح المجمع الصناعي العسكري الذي يعتمد منذ عقود على إبقاء روسيا “فزاعة استراتيجية”.
هناك عاملان أساسيان يهددان هذه المكاسب: شخصية ترامب المتقلبة، إذ لا يتردد في تبديل مواقفه بشكل مفاجئ بل وحتى إنكار تصريحات أدلى بها علنا. المثال الأوضح كان وصفه الرئيس الأوكراني زيلينسكي بـ”الدكتاتور” ثم نفيه لاحقا أنه قال ذلك.
هذه النزعة تجعل أي التزام يقدمه عرضة للتراجع في أي لحظة. أما الدور الأوروبي فيبقى العامل الثاني حيث دخل القادة الأوروبيون واشنطن يرفعون شعار الضغط على ترامب لكنهم أمامه بالغوا في التملق إلى درجة مثيرة للسخرية ما دفع وسائل الإعلام العالمية إلى تشبيه اجتماع المكتب البيضاوي بمشهد “صف دراسي” جلس فيه ترامب بدور المدير بينما جلس الأوروبيون كطلاب.
ورغم ذلك، فإن محاولات بعض العواصم وخاصة لندن عبر جهازها الاستخباراتي المتغلغل في أوكرانيا قد تعيد خلط الأوراق في أي لحظة.
يمكن القول إن قمة ألاسكا مثلت لحظة مفصلية في العلاقات الأمريكية ـ الروسية لكنها لم تُنتج بعد تسوية شاملة. ما تحقق حتى الآن أقرب إلى “هدنة سياسية” تمنح الطرفين مكاسب محدودة لكنها محفوفة بالمخاطر.
فترامب بطبيعته غير المستقرة والأوروبيون بخططهم الخفية، قد يحوّلان هذه اللحظة إلى محطة عابرة لا إلى بداية تحول استراتيجي حقيقي.
وبينما يترقب العالم الجولة المقبلة من المفاوضات، يبقى السؤال مفتوحا: هل سينجح ترامب وبوتين في تحويل “المكاسب الناقصة” إلى سلام دائم أم أن لعبة المصالح والتقلبات ستعيد النزاع إلى نقطة الصفر؟
المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.