
حسن محمود
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تحولت حياة الفلسطينيين إلى مأساة جماعية مفتوحة. أكثر من 62 ألف قتيل ونحو 145 ألف جريح وآلاف المفقودين، نصفهم من النساء والأطفال. هذا الرقم لا يمثل مجرد إحصاء بل يعكس حقيقة أن القتل الجماعي أصبح حالة طبيعية تتكرر أمام أعين العالم دون توقف.
الحرب في غزة ليست استثناء. ما جرى ويجري هناك يرتبط بنمط عالمي من العنف المنهجي يمتد من اليمن والسودان وسوريا إلى أوكرانيا والمكسيك. في كل هذه الساحات، تبرر الدول وجيوشها القتل عبر خطاب “الأمن القومي” أو “الدفاع عن النفس” وهي عبارات تُخفي خلفها أيديولوجيات تجعل إبادة الشعوب أمرًا مشروعًا.
الأخطر أن هذا العنف لم يعد يثير صدمة. بعد أكثر من عشرين شهرًا من القصف والتجويع والتدمير تطبع المجتمع الدولي مع فكرة أن قتل الأطفال وتجويع المدنيين وقصف المستشفيات والمدارس جزء من روتين يومي يمكن التعايش معه.
تقرير لمنظمة “بتسيلم” الحقوقية الإسرائيلية في يوليو 2025 بعنوان “إبادتنا” أكد أن ما يجري في غزة ليس نتيجة حرب عشوائية بل خطة واضحة لتدمير المجتمع الفلسطيني. استهداف المنازل والمخيمات والمناطق المعلنة “آمنة” بقنابل ثقيلة مثل مجزرة مخيم المواصي في يوليو 2024 التي قُتل فيها 90 شخصًا، يوضح أن الهدف هو جعل غزة غير صالحة للحياة.
هذا الهدف تحقق بوسائل متعددة: انهيار النظام الصحي مع ارتفاع وفيات الأطفال والإجهاض، انتشار المجاعة بعد تدمير الأراضي الزراعية وقصف نقاط توزيع الغذاء، شل التعليم بعد تدمير 90 في المئة من المدارس واستهداف الصحفيين حيث قُتل أكثر من 240 إعلاميًا. حتى المعتقلون لم يسلموا من التعذيب والانتهاكات الجنسية داخل السجون.
لفهم أسباب استمرار هذه المأساة، لا بد من النظر إلى بنيتها الاقتصادية والسياسية. ما تصفه الفيلسوفة نانسي فريزر بـ“الرأسمالية الآكلة للبشر” (Cannibal capitalism) يفسر الكثير: نظام اقتصادي يقوم على التضحية بمجموعات بشرية تُعتبر قابلة للتخلص وتحويل معاناتها إلى سلعة مربحة، بحسب تقرير نشره موقع “MEE” البريطاني.
في غزة، تحولت الحرب إلى سوق لتجربة الأسلحة وترويجها. شركات إسرائيلية مثل “إلبت سيستمز” تعرض منتجاتها على أنها “مجرّبة في المعارك” فيما تضخ الولايات المتحدة مئات المليارات في صناعة السلاح.
دراسة لجامعة براون أظهرت أن البنتاغون أنفق بين 2020 و2024 أكثر من 2.4 تريليون دولار على عقود مع شركات خاصة ثلثها ذهب إلى خمس شركات أسلحة كبرى. هذا المبلغ يفوق بسبعة أضعاف ما أنفق على الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية في الفترة نفسها. بهذا الشكل، يصبح القتل الجماعي ليس فقط نتيجة للصراع بل مصدرًا مباشرًا للربح.
الغرب لا يكتفي بتزويد إسرائيل بالسلاح بل يلاحق الأصوات المنتقدة لها. تهمة “معاداة السامية” تحولت إلى أداة سياسية لإسكات أكاديميين وصحفيين وسياسيين يرفضون الإبادة.
إبادة غزة تكشف كيف تتقاطع أزمات الرأسمالية الحديثة: الاستغلال الطبقي، التمييز العرقي والإمبريالي، الاضطهاد الجندري، انهيار البيئة وانهيار القانون الدولي. النتيجة أن الفلسطينيين اعتُبروا “قابلين للقتل”، معاناتهم تحولت إلى سلعة والقانون الدولي أصبح بلا فاعلية.
السؤال لم يعد هل هناك إبادة في غزة، بل كيف يستمر النظام العالمي في تحويل البشر إلى مواد خام للاستغلال أو منتجات للتسويق أو صور للاستهلاك. هذا هو جوهر الرأسمالية الآكلة للبشر.
وما يجري في غزة ليس حدثًا محصورًا بمكان وزمان محددين بل نموذج لمستقبل عالمي يسير نحو تطبيع القتل الجماعي كأمر اعتيادي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News