آراء و مقالات

الغرب والنصف الآخر من العالم… خطاب الهيمنة وإقصاء الأغلبية

تعبيرية (netizenme)

ثاقب أحمد

حين نشرت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية عنوانها: “The West neglects the other half of the world at its peril” (الغرب يدفع ثمن إهماله للنصف الآخر من العالم) بدا وكأنه تحذير من أخطاء السياسات الغربية. لكن بين السطور يكمن جوهر المشكلة: الغرب لا يزال يرى نفسه نصف العالم ويضع بقية الدول في خانة “النصف الآخر”. هذه ليست زلة لغوية بل انعكاس لذهنية استعمارية متوارثة تعتبر الغرب مركزا والبقية هامشا.

الأرقام تفضح زيف هذه الرؤية. العالم يضم 195 دولة و29 منها فقط غربية. سكان الأرض يتجاوزون 8.2 مليار نسمة بينما لا يتجاوز سكان الغرب 1.16 مليار. ومع ذلك، تسيطر هذه الأقلية على أغلب الثروة العالمية وتفرض شروطها على المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي وتحتكر مقاعد التأثير في مجلس الأمن.

منذ عقود، يجري استنزاف ثروات الجنوب العالمي عبر آليات مالية وتجارية غير عادلة. صحيفة “الجارديان” نشرت أن الشمال سحب ما يعادل 242 تريليون دولار من الجنوب بين 1990 و2015.
في عام 2023 وحده دفع الجنوب 1.4 تريليون دولار كخدمة ديون ومن المتوقع أن يتجاوز الرقم 2 تريليون بحلول 2030. هذه الأرقام لا تعكس تعاونا دوليا بل ابتزازا اقتصاديا مقنعا.

الغرب لا يكتفي بالهيمنة الاقتصادية بل يفرض على الجنوب معايير بيئية وتجارية مشددة يستخدمها أداة ضغط. دول مثل فيجي التي لم تسهم في التلوث الكربوني إلا بنسبة ضئيلة، تدفع ثمن التغير المناخي في صورة أعاصير متكررة بينما ترفض دول الشمال تحمل مسؤولياتها أو تخصيص تمويل مناخي عادل.

التفاوت التعليمي والتكنولوجي ليس نتيجة “تخلف طبيعي” كما يصوره بعض الخطاب الغربي وإنما هو حصيلة سياسات ممنهجة من التبعية. الجنوب حرم طويلا من نقل التكنولوجيا العادلة وجرى الإبقاء على الفجوة الرقمية لتظل الدول النامية سوقا للمنتجات الغربية بدلا من أن تصبح منتجة مستقلة.

حتى في السياسة، يواصل الغرب التعامل مع الجنوب بعقلية استعمارية. الاتحاد الأوروبي، رغم خطابه عن الشراكة، يتعرض لانتقادات متزايدة بسبب سياساته التجارية والهجرية التي تكرس اللامساواة. أما الولايات المتحدة، فتعتمد العقوبات الاقتصادية كسلاح لإخضاع الحكومات المخالفة دون اعتبار للتبعات الاجتماعية على شعوب الجنوب.

في المقابل، يتحرك الجنوب العالمي عبر تكتلات مثل مجموعة بريكس لمحاولة كسر هذه الهيمنة. الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا تقود مسارا بديلا يمنح الجنوب صوتا أقوى في رسم ملامح النظام الدولي. هذه التحركات تعكس وعيا متزايدا بأن الخضوع للغرب يعني استمرار حلقة التبعية والفقر.

الخطاب الغربي عن “النصف الآخر” يفضح عقلية قديمة لم تتغير: عقلية ترى الغرب معيارا للتقدم وبقية العالم تابعا. لكن الواقع لا يرحم هذه الذهنية. الغرب أقلية عددية وديموجرافية ورصيده التاريخي مثقل بالاستعمار ونهب الثروات. التحدي اليوم أمام دول الجنوب هو أن ترفض موقع “النصف الآخر” وأن تفرض نفسها كأغلبية تملك الشرعية الديموجرافية والثروات الطبيعية وتطالب بمكانتها في القرار العالمي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى