آراء و مقالاتتعليمثقافة و فن

الكربون-14… ساعة خفية تكشف أعمار الماضي

تعبيرية (DeDunking)

فريق UrKish News

تخيل قطعة خشب مدفونة منذ آلاف السنين أو مومياء لم يُعرف عنها سوى أنها تعود لعصور غابرة. كيف نعرف عمرها بدقة؟ الجواب يكمن في الذرات نفسها، في نظير الكربون-14 (Carbon-14) المشع الذي أصبح أداة العلماء لقراءة التاريخ.

في أربعينات القرن الماضي، وضع ويليارد ليبي وفريقه بجامعة شيكاغو حجر الأساس لتقنية ثورية. الفكرة بسيطة في ظاهرها: الأشعة الكونية تصطدم بذرات النيتروجين في الغلاف الجوي فتكوّن الكربون-14.
تمتصه النباتات وتنتقل إلى الحيوانات والبشر عبر الغذاء. بمجرد موت الكائن، ينقطع الامتصاص ويبدأ الكربون-14 في التحلل بمعدل ثابت نصفه يختفي كل 5730 سنة. بقياس ما تبقى، يمكن تحديد عمر العينة حتى 60 ألف سنة لتصبح هذه الذرات ساعة خفية تطلق العد التنازلي عبر العصور.

لكن الطريق لم يكن خاليا من العقبات. نسبة الكربون-14 في الغلاف الجوي لم تكن ثابتة، إذ أثرت عليها النشاطات الشمسية والمجالات المغناطيسية ثم جاءت الثورة الصناعية لتضيف طبقة من التعقيد. المحيطات أعطت الكائنات البحرية عمرًا مزيفًا وأي تلوث في العينة يشوّش النتائج.

العلماء تجاوزوا هذه التحديات بالمعايرة الدقيقة. حلقات الأشجار، رواسب الجليد والشعاب المرجانية شكلت سجلات طبيعية لرسم خطوط زمنية دقيقة. مع استخدام مسرعات الجسيمات منذ السبعينات، صار بالإمكان عد ذرات الكربون-14 بسرعة ودقة غير مسبوقة ما جعل التقنية أقوى وأدق من أي وقت مضى.

تأثير هذه الأداة على فهمنا للتاريخ هائل. ساعدت في تحديد عمر “إتزي” رجل الجليد بخمسة آلاف وثلاثمئة عام وكشفت أن كفن تورينو يعود إلى العصور الوسطى وأن نهاية العصر الجليدي في أمريكا الشمالية تمتد بين 25 ألف و11 ألف سنة. كما ساهمت في دراسة التغير المناخي عبر تتبع الكربون وفهم مساهمة النشاط البشري.

الكربون-14 لم يعد مجرد أداة أثرية بل أصبح معيارًا لفهم علاقة الإنسان بماضيه وبيئته. كل معايرة جديدة تكشف تفاصيل أكثر دقة، كل تحليل يعيد رسم صورة الماضي ويعيدنا لنفهم الحاضر بعين أوضح. التقنية تذكّرنا أن العلم رحلة مستمرة وأن الماضي ينتظر من يقرأه بدقة وصبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى