
يُعد بحر الصين الجنوبي نموذجا رئيسيا للصراعات البحرية في المنطقة الرمادية حيث تتقاطع السيادة والقانون الدولي مع مبدأ الوجود الفعلي. على مدى سنوات، ركز المحللون على ما تكشفه المنطقة عن طموحات الصين وآليات الردع الأمريكية وتراجع المعايير الدولية لكنها لم تعد دراسة محصورة في آسيا. الاتجاهات نفسها بدأت تظهر في نصف الكرة الغربي وتحديدا في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.
رغم غياب المواجهات العسكرية المباشرة، تواجه الدول في أمريكا اللاتينية تحديات سيادية مشابهة لتلك في جنوب شرق آسيا. هذه التحديات تتجلى في تراخيص النفط في المياه المتنازع عليها وأنشطة الصيد التجاري المكثف تحت أعلام متعددة ومشاريع بنية تحتية تحمل أبعادا استراتيجية مخفية. من سواحل غيانا إلى موانئ بيرو ومحطات الفضاء في الأرجنتين، تتكشف حالة من الاختبار الصامت للقدرة على حماية السيادة.
تشهد المنطقة تكرارا لديناميات مشابهة لما يحدث في بحر الصين الجنوبي حيث تقوم الدول الكبرى بتعزيز مطالبها عبر أنشطة رمزية وإدارية لا تتضمن مواجهة مسلحة مباشرة لكنها تؤثر في القانون الدولي.
مثال واضح في غيانا، فنزويلا تصر على مطالبتها بمنطقة الإيسيكويبو منذ أكثر من قرن وتصاعد النزاع بعد اكتشافات النفط لشركة إكسون موبيل عام 2015.
في 2023، أصدرت فنزويلا تراخيص استكشاف في مناطق متعاقد عليها بالفعل مع غيانا وهو ما يعكس أسلوب “التأكيد الإداري” الذي يشبه استراتيجيات الصين في بحر الصين الجنوبي.
على صعيد آخر، تعمل أساطيل صيد صناعية، معظمها صينية، قرب المياه الاقتصادية لإكوادور وبيرو والأرجنتين ما يزيد الضغط على الموارد البحرية ويضعف قدرة الدول على الإنفاذ البحري وهو ما يعكس الحاجة إلى وجود دائم لتأكيد السيادة.
الدرس واضح، السيادة تحتاج وجودا مستمرا والأطر القانونية وحدها لا تكفي من دون تطبيق عملي على الأرض والبحر.
لم تقتصر الاستراتيجيات على المطالب البحرية بل شملت مشاريع بنية تحتية مدعومة من الخارج. في بيرو، يشكل ميناء تشانكاي العملاق المدعوم من COSCO بوابة رئيسية للتجارة الصينية.
في الأرجنتين، تسعى شركات صينية للوصول إلى موانئ قرب مضيق دريك. هذه المشاريع التجارية ظاهريا لكنها تحمل إمكانيات للاستخدام المزدوج في حال تطلبت الظروف ذلك.
محطات الفضاء تضيف بعدا إضافيا، مثل محطة التتبع الفضائية في نيوكوين بالأرجنتين، التي لا تخضع لتفتيش محلي شامل ما يثير تساؤلات حول استخدامها المحتمل في المراقبة.
ضعف الأطر التنظيمية يجعل الدول أكثر عرضة لتحولات استراتيجية عبر العقود والاستثمارات بدلا من المواجهات العسكرية المباشرة.
تشهد المنطقة هزات في التحالفات التقليدية مع سعي الدول لتحقيق توازن بين القوى. هندوراس على سبيل المثال قطعت علاقاتها مع تايوان واعترفت ببكين في 2023 نتيجة اعتبارات اقتصادية رغم علاقاتها الطويلة مع واشنطن. البرازيل تحافظ على توازن بين استثمارات الصين وعضوية بريكس وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.
الدرس الأساسي يكمن في أن النفوذ يعتمد على الموثوقية والقدرة على التواجد عند الحاجة وليس على المعاهدات أو التاريخ.
السيطرة على الأراضي لا تقتصر على القانون بل تشمل القدرة على صياغة السرد الوطني. في فنزويلا، يمثل إدراج منطقة الإيسيكويبو في الخرائط الجديدة وسيلة لتعزيز مطالبة سيادية متجذرة في التاريخ الوطني. في المكسيك، عرضت الحكومة السابقة قيود الاستثمار الأجنبي كمسألة كرامة وطنية.
هذه الأمثلة توضح كيف تستخدم الدول السرد لتبرير السياسات وتقوية المواقف المحلية وتقليل فعالية الضغوط الخارجية.
النفوذ يترسخ في المنطقتين مع كل تردد يظهر من جانب المنافسين. الصين تسد الفجوات عبر القروض والتعليم ووسائل الإعلام وشبكات الاتصالات الرقمية. في الوقت نفسه، تسعى المؤسسات الإقليمية في أمريكا اللاتينية لتحقيق استقلالية استراتيجية ما يجعلها تشكل مركز ثقل محلي. كما يظهر في بحر الصين الجنوبي، النفوذ يتطلب اتساقا واستمرارية ومثابرة، والنجاح يتم عبر الحضور الدائم لا الهيمنة المباشرة.
تشير التجارب في أمريكا اللاتينية إلى أن السيادة قد تتآكل بهدوء عبر الوجود المستمر والمشاريع الاستراتيجية وسرديات الهوية الوطنية وليس من خلال النزاع المسلح المباشر.
هذه الاتجاهات قد تؤثر على الاستقلال السياسي والمرونة الديمقراطية والنفوذ الأمريكي في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
ما يحدث في المنطقة يشكل نموذجا يُحتمل أن يؤثر على ممارسة القوة دوليا مؤكدين أن السيادة اليوم تعتمد على الأداء والوجود الفعلي أكثر من القانون فقط. فهم هذه الديناميات يقدم إشارات مبكرة لصانعي القرار ويسلط الضوء على الحاجة لتعزيز قدرات الإنفاذ والسياسات الاستراتيجية قبل أن تتعمق التحديات على نحو يصعب التراجع عنه.
المقال باللغة الإنجليزية نشره موقع “Geopolitical Monitor” وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.