رعايت الله فاروقي
شهدت السياسة العالمية في السنوات الأخيرة تحولات جذرية كان أبرزها اندلاع أزمتين حربيتين تسببت فيهما إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن. وعلى النقيض، تميزت سياسات الرئيس الحالي دونالد ترامب بالنهج التفاوضي حيث أوقف العدوان الإسرائيلي وسعى للتفاوض مع روسيا. المفارقة أن هذا هو نفس ترامب الذي صورته وسائل الإعلام الليبرالية منذ عام 2016 على أنه مجرد “مهرج“.
لقد انساق العديد من الليبراليين حول العالم وراء هذه الصورة حتى في منطقتنا، حيث تأثر البعض بالنموذج الغربي دون النظر إلى الحقائق على الأرض. لكن اليوم وبعد عودة ترامب يبدو أن السياسة “المهرجة” التي اتبعها خلال ولايته الأولى قد تكون هي النهج الأمثل لإنهاء الصراعات المستمرة.
خلال فترته الرئاسية الأولى لم يفرض ترامب أي حرب جديدة بل اتخذ خطوات جادة لإنهاء التدخلات العسكرية وكان أبرزها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إذ قاد مفاوضات الدوحة إلى نهايتها متجاوزًا عقيدة واشنطن التقليدية التي ترفض التفاوض مع الجماعات المسلحة. جلس ترامب على طاولة المفاوضات مع شخصيات كانت محتجزة في غوانتانامو وكانت النتيجة إنهاء الحرب التي استمرت لعقدين.
وفي فترته الثانية، يبدو أن ترامب يسير على المسار ذاته. فعلى الرغم من تصريحاته الداعمة للوبي اليهودي إلا أن القصف على غزة قد توقف وبدأت أربع دول عربية في مناقشة خطط لإعادة إعمار القطاع مما يعني أن مخططات تهجير الفلسطينيين قد تم تجميدها.
أما في أوكرانيا، فقد أحدث ترامب تحولًا جذريًا خلال أسبوع واحد فقط مما أصاب أوروبا بالذهول ثم الإحباط وأخيرًا البكاء. وقد كان مشهد رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن كريستوف هيوسغن وهو يبكي أثناء كلمته الختامية في المؤتمر دليلًا واضحًا على عمق الأزمة التي تواجهها أوروبا.
لم يمضِ وقت طويل على عودة ترامب حتى أعلنت إدارته مجموعة من القرارات الحاسمة بخصوص أوكرانيا، أبرزها: أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو وأن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن أمنها،مع تأكيده أن أي دولة أوروبية ترسل قوات إلى أوكرانيا ستكون مسؤولة عن نفسها دون تدخل أمريكي أو من الناتو. كما شدد على أن التهديد الحقيقي لأوروبا ليس الصين أو روسيا بل سياساتها الداخلية المتخبطة.
لكن التطور الأهم جاء من خلال الاتصال الهاتفي الذي جمع بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي وصفه ترامب بأنه “رائع“. شمل الاتصال قضايا مثل الأزمة الأوكرانية والشرق الأوسط وإيران ومستقبل الدولار. وما زاد من قلق أوروبا أن هذا الحوار أعقبه انطلاق مفاوضات بين مسؤولين أمريكيين وروس في الرياض دون إشراك القادة الأوروبيين.
لطالما لعبت أوروبا دور الوسيط في الأزمات العالمية لكن ترامب قرر استبعادها هذه المرة معتبرًا أن قادتها الحاليين ينتمون إلى الفكر الليبرالي الذي ترعاه واشنطن من خلال منظمات مثل “USAID“. ومع تصاعد نفوذ اليمين المحافظ في الانتخابات الأوروبية الأخيرة بدا أن القارة العجوز أمام مفترق طرق: إما أن تتحرر من التبعية الأمريكية وتحاول إنقاذ الليبرالية المتداعية أو أن تقبل بصعود القوى القومية التي تعكس إرادة الناخبين.
وقد أشار وزير الخارجية الهندي في مؤتمر ميونيخ إلى نقطة جوهرية عندما تساءل: كيف يمكن لقادة غير منتخبين في بروكسل أن يفرضوا أجنداتهم على العالم؟
من بين الملفات التي تعهد ترامب بإصلاحها هو تقليص الإنفاق الأمريكي على الحلفاء وهو ما يعني تراجع الدعم المقدم للمنظمات الليبرالية التي ترعاها واشنطن. ومع تجاوز الديون الأمريكية 34 تريليون دولار باتت سياسات “إعالة القادة الأوروبيين” غير قابلة للاستمرار.
في ظل هذه المعطيات يبدو أن أوروبا مطالبة بإعادة النظر في تحالفاتها ومواقفها، فإما أن تتكيف مع التحولات الجديدة أو تواصل البكاء على ما مضى.
المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.