آراء و مقالات

مستقبل الأمم المتحضرة

صورة: The Independent

رعايت الله فاروقي

على مدار التاريخ، لم تكن أوروبا مجرد قارة جغرافية بل كانت ساحة مفتوحة لصراعات القوى وصناعة الإمبراطوريات. من روما إلى لندن ومن باريس إلى برلين، كتب الأوروبيون تاريخهم بحد السيف وبحبر من الدماء. لكن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحولت أوروبا إلى صورة جديدة: قارة منهكة تحتمي تحت المظلة الأمريكية وتراهن على الوحدة الاقتصادية بدلًا من القوة العسكرية.

اليوم، في مطلع 2025 يبدو أن هذه الصورة بدأت في الاهتزاز وربما تكون على وشك التلاشي.

بعد أن خرجت أوروبا مدمرة من الحرب العالمية الثانية، وجدت نفسها في حضن الولايات المتحدة. مشروع مارشال (Marshall Plan) أنقذ اقتصاداتها المنهارة والناتو تكفل بأمنها العسكري فتحولت أوروبا الغربية إلى تابع سياسي بينما سقطت أوروبا الشرقية في قبضة السوفييت.

ومنذ ذلك الوقت، أصبحت أوروبا ساحة نفوذ وليست صانعة قرار. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم تستعد أوروبا استقلالها الفعلي، بل استبدلت الخوف من الدب الروسي بولاء شبه مطلق لواشنطن.

حتى وقت قريب، كانت أوروبا تحاول أن تقنع نفسها بأنها قارة قوية ومؤثرة حتى جاء عام 2025 ليكشف المستور. البداية كانت من مؤتمر ميونخ الأمني حيث ظهرت الخلافات الأوروبية-الأمريكية إلى السطح ثم جاء مشهد الإهانة العلنية التي تعرض لها الرئيس الأوكراني زيلينسكي على يد ترامب في البيت الأبيض ليضع أوروبا أمام سؤال وجودي: هل تستطيع القارة الاستمرار دون الغطاء الأمريكي؟

المفارقة أن الرد الأوروبي على إهانة زيلينسكي لم يكن أكثر من عواطف بلا خطة. بريطانيا، مثلًا، أعلنت استعدادها لإرسال قوات لحماية أوكرانيا لكنها اشترطت أن تقوم القوات الأمريكية بحماية جنودها! مشهد عبثي يعكس عمق الأزمة العسكرية في أوروبا التي لم تعد تملك جيوشًا يُعتمد عليها ولا قرارًا مستقلا.

بريطانيا التي كانت يومًا “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” أصبحت اليوم جيشًا يعاني من نقص في العتاد، حتى أن عدد الخيول في الجيش البريطاني يفوق عدد المدافع وعدد الأدميرالات أكثر من السفن الحربية. المشهد ليس أفضل كثيرًا في فرنسا أو ألمانيا أو حتى الدول الاسكندنافية.

الحديث عن “الاستقلال الأوروبي” جميل على الورق لكنه عمليًا طريق نحو المجهول. أوروبا بلا أمريكا ستعود إلى سيرتها الأولى: قارة تتصارع دولها فيما بينها. فمنذ قرون، لم تعرف هذه القارة الاستقرار إلا تحت قهر قوة عظمى أو حماية خارجية. إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، إسبانيا.. كلها دول تحمل في ذاكرتها الجماعية مرارات تاريخية تجاه بعضها البعض. هذا الماضي لم يُنسَ بل تم تغطيته مؤقتًا بالمصالح الاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي. لكن مجرد نظرة على الإعلام المحلي أو حتى النكات الشعبية بين الشعوب الأوروبية تكشف عن بحر من الكراهية الدفينة ينتظر اللحظة المناسبة للظهور.

أوروبا اليوم تقف أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في التبعية لواشنطن بكل ما تحمله من إهانات سياسية أو الانفصال والدخول في نفق الصراعات القديمة التي دمرت القارة أكثر من مرة. وفي الحالتين، أوروبا لم تعد قادرة على رسم مستقبلها وحدها لأن الزمن الذي كانت فيه “قلب العالم” قد ولى.. وربما إلى الأبد.

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا