
عبدالرؤوف حسين
منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، تواجه إسرائيل أزمة غير مسبوقة على كافة الأصعدة: العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية. ومع دخول الحرب شهرها العشرين دون حسم واضح تتسع رقعة العزلة الدولية حول إسرائيل، بينما تتزايد الضغوط الداخلية والخارجية عليها.
لم تعد القضية مجرد مواجهة مع حركة حماس بل أصبحت اختبارًا شاملًا لموقع إسرائيل في النظام الدولي ولتماسكها الداخلي ولقدرتها على التوفيق بين أهدافها الأمنية وشرعيتها الدولية.
رغم جولات متكررة من المفاوضات آخرها في قطر، فشلت الجهود الدولية في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. يعود السبب الجوهري إلى تباين جذري في شروط الطرفين؛ فحماس ترفض إطلاق سراح الرهائن ما لم يتم الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، بينما ترفض إسرائيل الانسحاب وتصر على تحقيق ما تسميه بـ”الاستسلام الكامل” من حماس من خلال استمرار العمليات العسكرية.
في هذه المعادلة الصفرية، أصبح المدنيون هم الخاسر الأكبر. أكثر من 53 ألف شهيد في غزة، بحسب وزارة الصحة في القطاع، معظمهم من المدنيين وبينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال. وهذا ما غذّى حملة انتقادات دولية حادة ضد تل أبيب.
إلى جانب المعارك في غزة، تعيش إسرائيل انقساما داخليا حادا. الاحتجاجات الشعبية مستمرة يشارك فيها أهالي الرهائن وشرائح واسعة من المجتمع. ويزداد الرفض من ضباط الاحتياط للامتثال للأوامر كما سُجلت استقالات علنية وانتقادات لاذعة من قيادات عسكرية سابقة وشخصيات سياسية بارزة، منهم رئيسا الوزراء السابقان إيهود باراك وأيهود أولمرت. هذا التآكل في الجبهة الداخلية يقوض الثقة بالحكومة ويثير تساؤلات عن جدوى الحرب واستراتيجيتها النهائية.
العلاقة بين إسرائيل وحلفائها التقليديين تمر بمرحلة إعادة تموضع حرجة. بيان مشترك بين كندا وبريطانيا وفرنسا يطالب بوقف الحرب ويهدد بفرض عقوبات اقتصادية بينما يغيب الدعم الأمريكي التقليدي؛ فلا تصريحات رسمية من إدارة ترامب بل هناك تجاهل واضح، إذ لم يزر ترامب إسرائيل في أول جولة شرق أوسطية له بعد إعادة انتخابه ووقّع صفقات ضخمة مع السعودية والخليج دون ربطها بتطبيع مع تل أبيب.
كما وقعت تفاهمات أمريكية مباشرة مع حماس للإفراج عن رهينة أمريكي-إسرائيلي بعيدا عن التنسيق مع حكومة نتنياهو. هذا التحول ليس فقط دبلوماسيا بل استراتيجيا، ويؤشر إلى تآكل مكانة إسرائيل كحليف لا غنى عنه في الحسابات الغربية.
الحرب وما تبعها من عزلة دولية أثرت بعمق على الاقتصاد الإسرائيلي. انخفض النمو الاقتصادي إلى 1% في 2024 مقارنة بـ6.5% في 2022. وتوقّفت مشاريع استراتيجية مثل توسعة مصنع “إنتل” فيما انسحبت الاستثمارات الأجنبية بشكل ملحوظ.
تراجعت السياحة بنسبة 70% وانخفض التصنيف الائتماني وسط مخاوف من هروب رؤوس الأموال. كما عُلقت صادرات الأسلحة من دول أوروبية وأُوقفت مشاريع علمية وثقافية بسبب تصاعد حملات المقاطعة الأكاديمية والثقافية. تبدو هذه التطورات بمثابة عقوبات غير رسمية تُمارس على إسرائيل من خلال الاقتصاد والمجتمع المدني العالمي.
مع كل يوم إضافي من القصف، تخسر إسرائيل أحد أعمدة قوتها التاريخية: الشرعية الدولية التي كانت تحظى بها كدولة ديمقراطية محاصرة في محيط معاد. اليوم، تُتهم تل أبيب على نطاق واسع بارتكاب جرائم حرب ويُقارن سلوكها في غزة بسلوك أنظمة استبدادية.
في المقابل، لا تقدم الحكومة الإسرائيلية أي رؤية سياسية واضحة لـ”اليوم التالي” في غزة. لا أحد يعرف إن كانت ستبقى حماس أو ما إذا كانت إسرائيل ستحتل القطاع بالكامل أو ما هو مصير السكان.
وزير المالية سموتريتش تحدث صراحة عن رغبة في تهجير سكان غزة وإعادة الاستيطان وهي تصريحات تُقوّض أي مسعى لحل سياسي دائم وتدفع بالمجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات أحادية مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما فعلت إسبانيا والنرويج وأيرلندا.
تبدو إسرائيل اليوم في نقطة تحول تاريخية؛ فإما أن تراجع سياساتها العسكرية والدبلوماسية وتعود إلى طاولة السياسة أو تواصل السير في طريق العزلة والانقسام والاستنزاف الداخلي.
الخطر الأكبر لا يكمن في خسارة الحرب فقط، بل في خسارة موقع إسرائيل في النظام الدولي وانهيار توازنها الداخلي. في ظل غياب حلول سياسية وتآكل الثقة بالحكومة، يصبح السؤال الأكبر ليس عن غزة فقط بل عن مصير “الدولة الإسرائيلية” نفسها ككيان سياسي مستقر وشرعي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.