آراء و مقالات

من يروي الحكاية أعمق: السطور أم الشاشة؟

تعبيرية (govtech)

محمد دين جوهر

لا يكاد يهدأ الجدل بين عشاق الأدب ومتذوقي السينما حول سؤال كلاسيكي يطرح نفسه بإلحاح: هل الرواية أكثر تأثيرا أم الفيلم؟
سؤالٌ قديمٌ متجدد أُثير مؤخرا بعمق لافت في منشور للدكتور خالد ولي الله البلغاري بتاريخ 2 أبريل 2025 حيث صاغه على النحو التالي:
“الفيلم يمنحنا متعة وسهولة في التلقي نرى فيه الأشياء تتحرك وتتكلم دون جهد، ولكن هل هذه المتعة تأتي على حساب تأثير أعمق لا يُمكن إدراكه إلا عبر مشقة القراءة؟”

بهذا الطرح، لا ينحصر السؤال في تفضيل شخصي بين وسيلتين للمتعة بل يغوص في جوهر التلقي الجمالي والمعرفي ويُحيلنا إلى تأمل العلاقة بين العقل والخيال، بين المفهوم والصورة وبين العابر والخالد.

الرواية والفيلم كلاهما ينتميان إلى عالم الفن وبالتالي يشتركان في عناصر جوهرية أهمها: الخيال والتصوير (imagery). لكن طريقة اشتغالهما على هذه العناصر تختلف جذريا.
في الرواية يتولد التصوير من الكلمة، والخيال هو الذي يُكمل المشهد داخل ذهن القارئ. أما الفيلم فيعتمد على تجسيد مباشر ويستبدل الكلمة بالصورة الحسية المحسوسة.

وهنا نميز بين العقل بوصفه منتجا للمفاهيم المجردة والخيال بوصفه خالقا للصور الحية. فبينما تتسم المفاهيم العقلية بالتجريد والآلية، تنبض الصور الخيالية بالحس والعاطفة والذاكرة والجمال، وتملك كذلك طاقة تحوّل (transformative power)وطاقة تعويض (compensatory power) لا يُمكن للعقل أن يُحاكيها.
من هذا المنظور، تصبح الصورة الخيالية أكثر قدرة على التأثير من المفهوم العقلي الجامد.

العقل أسير الزمان والمكان يسعى إلى تفسير الواقع من حولنا ضمن إطار سببي ومنطقي، بينما يملك الخيال حرية تجاوز هذه الحدود، وقدرته التأملية قد توصله إلى عوالم “وراء الطبيعة” إن صح التعبير.

هذا الفارق يتجلى أيضا في وظيفة كل من العلم والفن.
العلم يُوسّع معرفتنا بالعالم الخارجي لكنه خاضع لسلطة الزمن؛ وما هو علم اليوم قد يُصبح مندرسًا غدًا. أما الخيال، فبفضل ما يخلقه من شعر وفن فإنه يمنح العمل الفني صفة الخلود كما يظهر جليّا في أعمال سوفوكليس أو مولانا الرومي التي تجاوزت قرونا من التغيرات الحضارية والثقافية.

الكلمة ليست سوى مزيج من شكل ومعنى. الشكل هو الهيئة الظاهرة أما المعنى فهو الجوهر الحر. يشبه الكلمة بـ”السنان” والمعنى بقطرة الماء التي تتدلى منه.
فالكلمة قيد بينما المعنى مطلق. العقل يحاول أن يُقيد المعنى داخل بنى لغوية في حين أن الخيال يطارد المعاني الطليقة التي تتجاوز الحروف والكلمات.

من هذا التصور يُمكننا فهم أن القراءة — تحديدًا قراءة الرواية — تتيح للخيال حرية الاشتغال. فهي لا تُقدّم المشهد مكتملًا بل تفتح المجال أمام القارئ ليُعيد خلقه داخل ذهنه. أما الفيلم فهو يُقيد تلك الحرية عبر مشاهد جاهزة وتفسير مسبق للمعنى بالصوت والصورة والحركة.

إن السينما — رغم كونها فنا بصريا قوي التأثير — هي في جوهرها نتاج إصرار العقل على حصر المعنى داخل قوالب مادية. ففي الفيلم، تكون كل “ممرات المعنى” محاصَرة بالكلمات والمشاهد والمونتاج والإضاءة والمؤثرات ما يقلص مساحة التأمل الحر ويُعيدنا إلى “عالم المفاهيم المحددة” لا الصور المفتوحة.

وفي هذا السياق، يستحضر بيتا شهيرا للشاعرة بروين شاکر:
“يُصرّ الأطفال على اختبار اليراع في وضح النهار،
لقد أصبح أطفال عصرنا أذكى.”

نعلق عليه بإضافة لاذعة:
لقد نجح الأطفال فلم يتبقَّ سوى الدودة، أما اليراع الذي كان يُضيء الظلام فقد مات.”

في هذا التوصيف، اليراع يرمز إلى الخيال الحر والنور الداخلي، أما الدودة فهي الواقع المادي القاحل. وبهذا، فإن السينما ـ رغم جمالها ـ قد تقتل اليراع إذا استسلمت لإملاءات السوق والصورة النمطية.

في النهاية، لا يمكننا أن نحسم الأمر تماما لصالح الرواية أو الفيلم. فكلاهما يحمل طاقة فنية وتعبيرية عالية لكن جوهر الفرق يكمن في شكل التجربة:

الرواية تجربة داخلية: يُعيد القارئ فيها بناء العالم داخل ذاته.
الفيلم تجربة خارجية: يُلقى فيها المعنى جاهزا أمام الحواس.

وبين من يبحث عن المتعة السهلة ومن يسعى وراء الأثر العميق، يظل السؤال مفتوحا:
هل نريد أن نرى العالم كما هو؟ أم نريد أن نعيشه من الداخل بكل ما فيه من جهد وخيال وعناء؟

االمقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا