آراء و مقالات

مستقبل الجيوسياسة الإيرانية: بين الهيمنة الإقليمية والتكيف مع النظام متعدد الأقطاب

تعبيرية (vox)

عبدالرؤوف حسين

تعيش إيران اليوم لحظة سياسية حرجة تتقاطع فيها عناصر الأزمة الداخلية والتحديات الخارجية وسط مسارات متباينة تعكس في مجموعها هشاشة التوازن الاستراتيجي الذي بنته طهران على مدى العقدين الأخيرين.
وبينما تتعرض مرتكزات النفوذ الإيراني في المنطقة لضربات مؤلمة، تجد القيادة الإيرانية نفسها أمام مفترق طرق: إمّا المضي في مسار التصعيد النووي مع ما يحمله من مخاطر العزلة والانفجار العسكري أو الدخول في تسوية سياسية جديدة تراعي الواقع الجيوسياسي المتبدّل وتعيد تموضع إيران في خارطة القوة الإقليمية والدولية.

بداية الانحسار الفعلي لنفوذ إيران لم يأت فقط نتيجة الضغوط الأمريكية وسياسة “الضغط الأقصى” التي دشنها دونالد ترامب بل تعمّق بفعل التحولات الميدانية في سوريا خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي شكّل لعقود محورا مركزيا في المعادلة الإيرانية في المشرق.
انهيار النظام السوري – كافتراض تحليلي – أعاد خلط الأوراق وقطع فعليا “الجسر البري” الممتد من طهران إلى بيروت وهو ما كان يؤمّن لإيران نقل الدعم اللوجستي والعسكري لحلفائها.

ما تبقى من هذه الأذرع بات الآن يعمل تحت ضغط مستمر من العمليات الإسرائيلية عالية الدقة التي استهدفت قيادات ومخازن تسليح في لبنان وسوريا وغزة ما أدى إلى تراجع كبير في قدرة هذه الجماعات على لعب دورها التاريخي كأدوات غير مباشرة للضغط على إسرائيل والغرب.
وبهذا، تجد طهران نفسها في موقف يتطلب إعادة تعريف وسائل الردع بعد أن أصبحت أدواتها التقليدية أقل فاعلية في ظل تغير ميزان القوة في الإقليم.

في مقابل هذا الانكفاء، تشهد العقيدة العسكرية الإيرانية تحوّلا ملحوظا نحو التركيز على تطوير القدرات الذاتية خصوصًا في مجالات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.
لم يعد الرهان على الوكلاء كافيا، لذا تسعى إيران إلى بناء توازن ردع مباشر يفرض معادلة جديدة لا تستند فقط إلى الردع بالوكالة بل إلى القدرة الذاتية على إيلام الخصم.

هذه التطورات تترافق مع تصعيد غير مسبوق في التوتر مع إسرائيل التي باتت تلوّح – أكثر من أي وقت مضى – بإمكانية توجيه ضربات عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية خاصة مع الحديث عن احتمال انسحاب طهران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
في هذا السياق، يصبح التصعيد النووي ورقة مزدوجة: تهديد استراتيجي يُستخدم كوسيلة ضغط تفاوضي لكنه في الوقت نفسه يرفع احتمالات المواجهة إلى مستويات خطرة.

ورغم كل ما سبق، تشير مؤشرات عديدة إلى إمكانية فتح نافذة دبلوماسية جديدة. فالإدارة الأمريكية عبر مبعوثها إلى الشرق الأوسط، طرحت مؤخرًا مقاربة مختلفة تقوم على “بناء الثقة” بدلا من الإملاء.
وتبدو سلطنة عُمان مجددا مرشحة للعب دور الوسيط في قناة تفاوض غير معلنة خاصة أن الطرفين – الإيراني والأمريكي – لديهما الآن دوافع قوية لكسر الجمود: طهران للتهرب من مزيد من العزلة الاقتصادية وواشنطن لتسجيل اختراق دبلوماسي قد ينعكس على المشهد السياسي.

في المقابل، هناك إعادة اصطفاف استراتيجي واضحة تنخرط فيها طهران من بوابة التحالف مع موسكو وبكين كنوع من الرد الجيوسياسي على الحصار الغربي.
الاتفاقيات الأخيرة مع روسيا لا تندرج في إطار تحالف عسكري تقليدي لكنها تؤسس لشراكة أمنية واستخباراتية في مناطق حساسة مثل بحر قزوين وآسيا الوسطى.
أما الصين، فتلعب دور “الضلع المتوازن” في “مثلث بريماكوف الجديد” داعمة مسار التهدئة ومؤكدة رفضها لمنطق الاستقطاب الحاد أو التحالفات العسكرية الهجومية.

إحدى أبرز نقاط التحوّل التي تُحسب لإيران في هذه المرحلة هي استعادة العلاقات مع السعودية في خطوة لم تكن متوقعة خاصة أن الوساطة كانت صينية.
هذا التقارب الخليجي-الإيراني يفتح الباب أمام سيناريو جديد يتمثل في تشكّل بنية أمنية إقليمية تقوم على الحوار بدل الصدام.
زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران، في سياق التفاوض النووي، تعكس تقاطعا نادرا في المصالح بين الرياض وطهران، يمكن أن يترجم إلى دعم خليجي مشروط لتسوية نووية بخلاف الرفض الحاسم الذي تبنته دول الخليج إبان توقيع اتفاق 2015.

في هذا السياق، تبرز أهمية دور “الدول الوسطية” مثل مصر التي تمتلك القدرة على تسويق حلول سياسية متوازنة وعلى التفاعل بمرونة مع أطراف متناقضة دون الاصطفاف الصلب ما يجعلها مرشحة للعب دور محوري في إدارة المرحلة المقبلة من التفاوض الإقليمي.

في المحصلة، تقف إيران أمام مشهد استراتيجي شديد التعقيد يتطلب منها إعادة ضبط بوصلتها السياسية والتحالفية بعيدا عن النهج التقليدي القائم على مبدأ “المقاومة المستمرة”.
فالمعادلة الجيوسياسية الحالية تفرض مقاربة أكثر براجماتية قد تتطلب تقديم تنازلات تكتيكية من أجل الحفاظ على مكاسب استراتيجية أوسع.
وفي حال أخفقت طهران في قراءة اللحظة السياسية بدقة، فإن خطر الانزلاق إلى مواجهة شاملة قد لا يكون احتمالا بعيدا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا