
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتُهيمن فيه الشاشات على تفاصيل يومنا، تبدو العودة إلى الكتاب كخيار رومانسي أو حتى “قديم” في نظر البعض. غير أن الأبحاث العلمية الحديثة تعيد الاعتبار لهذه العادة الهادئة وتكشف أن للقراءة — وخصوصًا المطالعة اليومية — أثرا عميقا يتجاوز المتعة أو التثقيف، ليمس صحة الإنسان النفسية والعقلية بل وحتى الجسدية.
فمن إطالة العمر إلى تعزيز الذكاء ومن تحسين النوم إلى الوقاية من التدهور العقلي، تقف القراءة كدواء غير مكلف في مواجهة تحديات العصر الصحية.
القراءة تطيل العمر؟ العلم يؤكد
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى ضربا من الخيال لكن دراسة أجراها باحثون في جامعة “ييل” الأمريكية عام 2016 قلبت الموازين. فقد كشفت أن الأفراد الذين يداومون على قراءة الكتب يقل لديهم خطر الوفاة المبكرة بنسبة تصل إلى 20% مقارنة بمن لا يقرأون مطلقا.
ولعل اللافت في الدراسة أن الفائدة لم تكن مساوية بين جميع أشكال القراءة. فقراءة الكتب، خاصة الروايات، كانت أكثر فاعلية من قراءة الصحف أو المجلات. الباحثون أوضحوا أن تخصيص 30 دقيقة يوميا للمطالعة يمكن أن يضيف في المتوسط عامين إلى عمر الإنسان.
درع عقلي في مواجهة الشيخوخة
التدهور العقلي مع التقدم في السن يُعدّ من أكبر المخاوف الصحية عالميا. إلا أن القراءة — بحسب دراسات عديدة — تسهم بشكل كبير في تقوية القدرات المعرفية وتحفيز الذاكرة والوقاية من أمراض مثل الخرف والزهايمر.
وفي دراسة نُشرت عام 2021، تم التأكيد على أن القراءة المنتظمة ترفع من كفاءة وظائف الدماغ وتؤخر ظهور أعراض التدهور المعرفي في مراحل الشيخوخة.
مطالعة القصص: علاج صامت للتوتر
في ظل الضغوط اليومية المتزايدة، تبرز المطالعة كأداة فعالة لتقليل التوتر وتحسين المزاج. إحدى الدراسات التي أجريت عام 2022 أظهرت أن قراءة الروايات الخيالية تساعد على تهدئة الأعصاب وتوفير متنفس نفسي حقيقي للقارئ.
ليس ذلك فحسب بل إن القراءة الجماعية للقصص سواء في النوادي الأدبية أو حتى بين أفراد الأسرة، ترفع مستويات السعادة وتقلل من مشاعر الاكتئاب والقلق والانفصال العاطفي.
مفتاح لنوم أفضل
الأرق بات شكوى شائعة لكن الحل قد يكون بسيطا: كتاب قبل النوم. دراسة حديثة كشفت أن 6 دقائق من القراءة قبل الخلود إلى النوم يمكن أن تقلل من التوتر بنسبة تزيد عن 60% وتحسّن من جودة النوم بنسبة تصل إلى 42%.
الباحثون أوصوا باستخدام الكتب الورقية بدلا من الأجهزة الإلكترونية التي تبعث ضوءا أزرقا يؤثر سلبا على إفراز هرمون النوم (Melatonin).
ذكاء وسعة أفق
القراءة لا تُغذّي العقل بالمعلومات فحسب بل تعزز القدرات اللغوية وتُنمّي مهارات التفكير النقدي وتفتح آفاقا جديدة لفهم الذات والآخرين.
كما ترتبط المطالعة المنتظمة بزيادة القدرة على التركيز وتحفيز الخيال وتطوير مهارات التعاطف مما يجعل القارئ أكثر نضجا ووعيا في التعامل مع محيطه.
المهارات الاجتماعية تقوى مع كل صفحة
هل القراءة تجعلك أكثر فهما للناس؟ الباحثون يقولون: نعم. فالدراسات تشير إلى أن الأشخاص الذين يقرؤون بانتظام يمتلكون قدرة أعلى على قراءة مشاعر الآخرين والتفاعل معهم بشكل إيجابي.
الروايات، خصوصا، تُقدم شخصيات وتجارب متنوعة ما يُكسب القارئ فهما أعمق للسلوك الإنساني ومهارات اجتماعية أفضل.
في النهاية: العودة إلى الكتاب… استثمار في الذات
في عالم يزداد فيه الضجيج الرقمي وتقل فيه لحظات الصفاء، تقدم القراءة خيارا متزنا يساعدنا على استعادة التوازن الداخلي وتقوية قدراتنا العقلية والجسدية والنفسية.
ورغم بساطة الوسيلة، فإن نتائجها قد تكون ثورية على المدى البعيد. فربما آن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا اليومية ونمنح للكتاب مساحة يستحقها في جدولنا، لا كرفاهية بل كضرورة.
تنويه: المعلومات الواردة في هذا المقال مستندة إلى أبحاث منشورة في مجلات طبية وعلمية مرموقة كما أفادت به شبكة Geo News. يُنصح دائما بمراجعة المختصين عند النظر في أي تغيير يرتبط بالصحة العامة.