آراء و مقالات

من كييف إلى غزة: معركة واحدة تكتب نهاية النفوذ الغربي في العالم؟

تعبيرية (Cokada – iStock)

غزة اليوم لا تعيش فقط تحت قصف الطائرات والدبابات الإسرائيلية بل تواجه مجاعة وعطشا مفروضين بقوة السلاح والسياسة بعدما قررت إسرائيل والولايات المتحدة منع وصول المساعدات الإنسانية إليها. آلاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء تقف عند أبواب غزة لكن الاحتلال وحلفاءه يصرّون على تحويل الجوع إلى سلاح إبادة جماعية.

في ظل هذه الكارثة الإنسانية، كان إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه الاعتراف بدولة فلسطينية في سبتمبر المقبل نقطة تحوّل بارزة. إلا أن ردة الفعل الأمريكية، بقيادة دونالد ترامب، جاءت على شكل هجوم عنيف على ماكرون في محاولة لمنع أي تصدع داخل الجبهة الغربية الداعمة لإسرائيل. إعلان مشابه صدر من رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الذي لوّح أيضا بالاعتراف بفلسطين إذا لم تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار.

لكن المفارقة أن كير ستارمر الذي كان حتى وقت قريب من أشد المدافعين عن إسرائيل، وجد نفسه اليوم مضطرا إلى التراجع خطوة إلى الوراء بعدما تحوّلت مجاعة غزة إلى قضية رأي عام تهدد استقرار حكومته داخليا. هذا التراجع يكشف حجم التحولات العميقة التي تعصف بالمشهد السياسي الغربي.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يتجرأ سوى باريس ولندن على اتخاذ مواقف علنية بينما تلتزم بقية العواصم الأوروبية، وفي مقدمتها برلين، صمتا مطبقا؟

لفهم هذه التعقيدات، لا بد من وضع الصراع الفلسطيني في سياقه الجيوسياسي الأوسع. فالحرب على غزة ليست منفصلة عن حرب أوكرانيا كما يُخيّل للبعض. بل إن ما يجري في غزة هو امتداد مباشر للصراع العالمي على قيادة النظام الدولي. كلّما اقتربت إمبراطورية من لحظة سقوطها، تبدأ بفقدان سيطرتها على محيطها ويتبع ذلك ارتباك سياسي يدفعها إلى خوض حروب يائسة في محاولة لاستعادة زمام المبادرة. هكذا سقطت الإمبراطورية الرومانية وهكذا تهاوى الاتحاد السوفيتي.

الولايات المتحدة التي تدرك أن الصين هي الخطر الحقيقي على هيمنتها، حاولت منذ سنوات جرّ بكين إلى مواجهة عسكرية في بحر الصين الجنوبي. لكنها وجدت نفسها عالقة في المستنقع الأوكراني بعدما استدرجها بوتين إلى حرب استنزاف مُحكمة. استراتيجية “الحرب البطيئة” التي ينتهجها بوتين لم تكن عبثية بل تهدف إلى تدمير الأصول البشرية لأوكرانيا، استنزاف مخازن الأسلحة لدى الناتو وضرب الاقتصادات الغربية.

ومن يظن أن الخسائر تقتصر على أوكرانيا فهو لم يفهم بعد طبيعة الحرب. الناتو، بوصفه أكبر تحالف عسكري وسياسي واقتصادي في التاريخ، هو الذي يتلقى الضربات. ما كان يُعتبر قبل سنوات أزمة أمريكية أصبح اليوم زلزالا يضرب الغرب بأسره. العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا انقلبت عليه فيما استخدم بوتين سلاح الغاز لضرب أوروبا في مقتل.

وقد تجلّى هذا التغيير في مشهد رمزي حين وصل قادة الاتحاد الأوروبي إلى بكين في يوليو الماضي. فبدلا من استقبالهم بسيارات رسمية فارهة، تم نقلهم بحافلات نقل جماعي مخصصة للركاب العاديين. رسالة واضحة من الصين: عصر الهيمنة الغربية انتهى.

هنا يصبح من المشروع التساؤل: من سيحمي إسرائيل عندما تسقط القوى التي كانت تسندها؟ من كان يصنع لها دور “زعيم المنطقة”؟ وعندما تنهار تلك الإمبراطوريات من سيتولى قيادة المشهد؟

المفارقة أن الخطاب العربي الإسلامي ما زال محصورا في عبارات من نوع “أين ضمير الحكام؟” متجاهلين أن هؤلاء الحكام ليسوا قوى عظمى ولا يملكون مفاتيح القرار الدولي. القرارات الكبرى تصنعها القوى المهيمنة وحتى الآن كانت تلك القوى غربية. لكن مؤشراتها بدأت بالتحول نحو الجنوب العالمي بقيادة الصين وروسيا.

بوتين كان واضحا قبل عامين عندما قال: “إذا كانت نخوة أحدكم قد استيقظت فليحمل سلاحه إلى أوكرانيا لأن نصر فلسطين يمرّ عبر كييف“. هذه العبارة تلخّص ببساطة أن مصير المعركة في غزة مرتبط بنتائج المعركة في أوكرانيا.

آخر التطورات العسكرية تكشف هذا الترابط بوضوح. الهجمات بالطائرات المسيرة على القاذفات الاستراتيجية الروسية والغارات التي استهدفت منشآت إيرانية خلال الحرب مع إسرائيل، حملت توقيعا مشتركا بين السي آي إيه (CIA) والموساد. السؤال هنا: لماذا شاركت إسرائيل في ضرب القوة الجوية الاستراتيجية الروسية قبل شن هجماتها على إيران؟ الجواب ببساطة: لأنها تدرك أن بقاءها ذاته بات معلقا بنتائج الحرب الكبرى.

المعركة في فلسطين اليوم لم تعد معركة فلسطينية فقط بل معركة وجودية لإسرائيل نفسها. ومع فشل دباباتها وطائراتها في حسم المواجهة، لجأت إلى سلاح التجويع كآخر محاولة للتخلص من الشعب الفلسطيني قبل انهيار حلفائها في الغرب.

لكن الأزمة خرجت عن السيطرة، حتى بات قادة مثل ماكرون وستارمر يخشون انتفاضات شعوبهم ما دفعهم إلى مراجعة مواقفهم.

ويبقى السؤال الأهم: من سينقذ إسرائيل؟ هل هو ترامب الذي عجز عن إخضاع دمية مثل زيلينسكي؟ ترامب الذي تلقت بحريته هزيمة مذلة في البحر الأحمر؟ ترامب الذي فرض عقوبات على الصين ثم رفعها صاغرا؟ ترامب الذي احتاج إلى موافقة إيران قبل أداء مشهد “التدمير الكامل“؟ إذا كان هذا هو من تراهن عليه تل أبيب فلا عجب أن تتحول إلى ركام.

الواقع أن إسرائيل تجد نفسها اليوم في مأزق وجودي غير مسبوق بينما العالم يتغير من حولها بسرعة هائلة، ومجال المناورة يضيق حتى الاختناق.

المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة حسن محمود والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا