آراء و مقالات

ترامب بين باغرام والبلطيق… هل يتجه نحو انسحاب واسع من الساحات الخارجية؟

انسحبت القوات الأمريكية من قاعدة باغرام في أغسطس 2021 ضمن انسحابها من أفغانستان. (صورة: indiatoday)

ولاية دونالد ترامب الأولى كانت أقرب إلى مرحلة ارتباك سياسي عميق. منذ الأيام الأولى، وتحديدا قبل أداء اليمين، واجه صدمة كبيرة حينما وقع مستشاره للأمن القومي الجنرال مايكل فلين في قبضة مكتب التحقيقات الفيدرالي. ومع انطلاق فترة الحكم تزايدت الصراعات الداخلية داخل فريقه حتى وصلت إلى أكثر من محاولة عزل. وفي نهاية المطاف اعترف ترامب نفسه بأنه لم يكن يدرك الكثير مما كان يحدث حوله.

أما في ولايته الثانية، فيبدو أن ترامب يسعى لتثبيت صورة الزعيم الاستثنائي. يلجأ إلى طرح أفكار مثيرة، يطلق تصريحات صادمة ثم يترك الساحة مشغولة بضجيج مفتعل بينما يتراجع هو خطوة إلى الوراء.
أمثلة ذلك كثيرة، من الحديث عن ضم كندا كولاية أمريكية جديدة إلى طرح فكرة شراء جرينلاند وصولا إلى ما يثار اليوم عن قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان.
لكن خلف هذه الضجة الأخيرة تبدو حسابات أوسع ترتبط بملفين أساسيين: أحدهما في أوروبا والآخر في آسيا والمحيط الهادئ.

في أوروبا، شهدنا خلال الأسابيع الأخيرة موجة اتهامات مفترضة. أربع دول، هي بولندا وإستونيا ورومانيا والدنمارك، أعلنت أن طائرات روسية مسيّرة ومقاتلة اخترقت أجواءها. لكن سريعا ما ظهرت ثغرات في هذه الرواية. فالمسافة لا تسمح للطائرات الروسية بالوصول إلى بولندا، كما أن موسكو عرضت تحقيقا مشتركا فقوبل العرض بالرفض من وارسو.
عند هذه النقطة، برزت تحليلات واسعة تفيد بأن هذه الضجة ليست إلا وسيلة لإبقاء واشنطن منخرطة في الملف الأوكراني.

المعطيات عززت هذه الفرضية. فترامب في تغريدة قوية اشترط فرض عقوبات إضافية على موسكو بتوقف أوروبا عن شراء النفط الروسي. وذهب أبعد من ذلك حين قال بوضوح: “إذا لم توقفوا شراء النفط فلا تضيعوا وقتي“. هذه الرسالة بدت حاسمة في إظهار أن اهتمامه بحرب أوكرانيا يتراجع. لذلك رأى خبراء مستقلون أن الحديث عن “اختراقات جوية” أوروبي هدفه الأساسي الضغط على الإدارة الأمريكية للحفاظ على وجودها العسكري في القارة.

تقرير لوكالة رويترز قبل أيام كشف جانبا آخر. الإدارة الأمريكية أبلغت الاتحاد الأوروبي نيتها سحب قواتها من دول البلطيق مبررة القرار بعدم جدوى الإنفاق العسكري هناك.
منذ وصول هذه المعلومة إلى بروكسل، تكاثرت الأحاديث عن اختراقات روسية بشكل يومي تقريبا. وبذلك يتضح أن القضية مرتبطة بالهواجس الأوروبية من انسحاب أمريكي محتمل أكثر من ارتباطها بأوكرانيا.
هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، فقد كرر ترامب مرارا أن روسيا ليست تهديدا استراتيجيا كالذي مثّله الاتحاد السوفيتي.

في المحيط الهادئ، تسير الأمور في اتجاه مشابه. تقارير متعددة تحدثت عن خطط لسحب قوات أمريكية من اليابان وكوريا الجنوبية. سيول نفت الأمر بشكل مباشر لكن وزارة الدفاع الأمريكية استخدمت عبارة لافتة: “لم يُتخذ قرار نهائي بعد”. أما في اليابان، فلم يصدر أي نفي رسمي بل تسربت معلومات عن خطة لسحب 9000 جندي من أوكيناوا نُقل منهم بالفعل 4000.

الرسمي المعلن هو أن هؤلاء الجنود سيُنقلون إلى قاعدة غوام في المحيط الهادئ لكن ضباطا أمريكيين متقاعدين أكدوا أن الهدف النهائي إعادتهم إلى الأراضي الأمريكية. هؤلاء الضباط أوضحوا أن العرض العسكري الصيني الأخير أكد لواشنطن أنها غير قادرة على تطويق بكين عسكريا. وعليه، خلصت الإدارة إلى أن تقليص الوجود العسكري الخارجي والتركيز على الداخل هو الخيار الأكثر واقعية.

هذه التطورات تجعل السؤال بشأن قاعدة باغرام أكثر وضوحا: إذا كانت الولايات المتحدة تقلص وجودها العسكري في أوروبا وآسيا معا وتغلق بعض قواعدها، فما حاجتها إلى قاعدة عسكرية في أفغانستان؟
الواقع أن واشنطن حاولت خلال مفاوضات الدوحة إقناع طالبان بقبول بقاء بعض القواعد لكنها قوبلت برفض قاطع أدى إلى الانسحاب الكامل.

من هنا يبدو أن الحديث عن باغرام لا يعكس توجها حقيقيا لدى الإدارة الأمريكية بل يدخل ضمن الأسلوب الذي اتبعه ترامب مرارا: إثارة قضايا مثيرة للجدل لشغل الرأي العام بينما تتحرك سياسته الفعلية في اتجاه آخر تماما.
وبذلك، يظل التركيز على قاعدة باغرام نوعا من اللهث وراء “شعاع مضلل” لا يغير شيئا في واقع السياسة الأمريكية الحالية.

المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة حسن محمود والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى