
ثاقب احمد
قبل أيام، أصدرت إدارة الرئيس دونالد ترامب وثيقة الاستراتيجية القومية الجديدة للولايات المتحدة وأصبحت موضوع نقاش واسع في الإعلام العالمي. في الداخل، تحاول بعض الدوائر الليبرالية تفسير الوثيقة على أنها تعكس إعادة تنظيم القوة الأمريكية وليست علامة ضعف بينما الواقع يشير إلى أن الوثيقة تعكس سياسة عملية ومباشرة تستند إلى قراءة استراتيجية دقيقة للتحديات الحالية.
لفهم الوثيقة، يجب وضعها في سياقها التاريخي. قبل صعود الولايات المتحدة، كانت بريطانيا القوة الاستعمارية الكبرى وهي الإمبراطورية التي “لا تغرب عنها الشمس”. لكن قرب عام 1870، ظهرت قوتان صناعيتان وهما الولايات المتحدة وألمانيا ما أثار قلق النخبة البريطانية حول قدرة الإمبراطورية على الاستمرار تحت الضغوط الاقتصادية المتزايدة.
في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هناك حديث صريح عن هذه المخاطر حتى جاء وزير المستعمرات البريطاني جوزف تشيمبرلن الذي ألقى في 10 يونيو 1896 خطابا بعنوان “الإمبراطورية البريطانية: التجارة الاستعمارية وعبء الرجل الأبيض” (The British Empire: Colonial Commerce and The White Man’s Burden) مؤكدا أن الإمبراطورية لا يقتصر دورها على التوسع بل يجب أن تكون قادرة على إدارة نفسها واستدامة قوتها وأن نفقاتها أصبحت أثقل من قدرتها ما استدعى التفكير الجاد وتوزيع العبء على مستعمرات ناطقة بالإنجليزية مثل أستراليا وكندا.
اليوم، تعكس وثيقة ترامب نفس الرؤية. فهي تشير إلى أن النفقات الدفاعية للولايات المتحدة أصبحت باهظة بينما الصين تتقدم اقتصاديا وعسكريا مما يستدعي نقل جزء من العبء إلى الحلفاء.
في آسيا والمحيط الهادئ، طالبت الولايات المتحدة اليابان وكوريا بتحمل مسؤولية الدفاع عن أنفسهما بشكل مستقل. هذا الطلب أثار ردود فعل سياسية قوية داخل اليابان حيث وجدت رئيسة الوزراء الجديدة تكايشي نفسها تحت ضغط داخلي للتراجع عن تصريحاتها تجاه الصين وهو ما يظهر تحديات نقل العبء العسكري في المنطقة.
أما في أوروبا، فتوجه الوثيقة انتقادا واضحا حيث تصف القارة بأنها غير مسؤولة وتشير إلى أن تصرفات الدول الأوروبية أدت إلى زوال بعض قدرتها الاستراتيجية. وتحث الوثيقة كل دولة على تطوير نظام دفاعي مستقل قبل عام 2027 مع إعلان صريح أن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بضمان أمن القارة وأن كل دولة يجب أن تتحمل مسؤولية حمايتها بنفسها.
وتشير الوثيقة إلى أن الاتحاد الأوروبي مبني على نظام مالي مركزي تديره بيروقراطية غير منتخبة في بروكسل قادرة على التحكم في البنوك وإصدار أوامر الرقابة على وسائل الإعلام ويلتزم القادة الأوروبيون بتنفيذ قراراتها. هذا النظام وصفته إدارة ترامب بأنه سلطوي وأكدت أن أوروبا عاجزة عن حماية مصالحها دون واشنطن ما يضعها تحت ضغط استراتيجي مستمر.
وتوضح الوثيقة أن الإدارة الأمريكية تمارس سياسات ثابتة على مدار عقود تقوم على نقل الأعباء إلى الحلفاء ثم تعديل الاتفاقات حسب مصالح واشنطن، كما حدث في الاتفاق النووي مع إيران أو في الحرب في أوكرانيا حيث بدأ ترامب بتسليح كييف ثم واصل بايدن الحرب قبل أن يوضح ترامب لاحقا أن الحرب هي صراع أوكرانيا وروسيا وليست حرب الولايات المتحدة مباشرة، وفق ما أشار إليه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي في مقال نشره موقع “We News“.
وتسلط الوثيقة الضوء على تحديات اقتصادية وعسكرية تواجه أوروبا إذ طلب ترامب من الدول الأوروبية بناء نظام دفاعي مستقل خلال عامين فقط في وقت تعاني فيه القارة من أعباء اقتصادية نتيجة حرب أوكرانيا. كما أن القوة العسكرية الأوروبية تراجعت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بناء على طلب أمريكي لتصبح اليوم أقل قدرة على مواجهة التحديات المستقلة فيما يشبه وضع بريطانيا.
وتؤكد الوثيقة أن الولايات المتحدة تواجه قيودا مالية وعسكرية وهو ما يجعل نقل جزء من العبء إلى الحلفاء ضروريا خاصة في آسيا وأوروبا. كما تذكّر بأن الإمبراطوريات لا تنهار فجأة بل تضعف تدريجيا مع الزمن كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية.
إدارة ترامب لم تكتفِ بتحديد التحديات بل وضعت تواريخ محددة للحلفاء لتطوير قدراتهم الدفاعية ما يفرض على أوروبا وآسيا اتخاذ قرارات استراتيجية عاجلة في ظل واقع اقتصادي وعسكري معقد لا يسمح بالتأجيل.
الوثيقة تحمل رسالة واضحة للأوروبيين حيث تصفهم بالضعف وعدم المسؤولية وتفرض عليهم موعدا نهائيا لبناء قدراتهم الدفاعية الذاتية بحلول 2027 في وقت تعتبر فيه نفقات الدفاع من أغلى الاستثمارات وتضع قارة بأكملها أمام تحديات مالية وعسكرية ضخمة.
في هذا السياق، تكرر الوثيقة التاريخ مؤكدة أن الإمبراطوريات، مثل البريطانية واليوم الأمريكية، تواجه ضعفا متزايدا مع مرور الزمن ولا يمكن للسياسات المالية والدفاعية أن تمنع تآكل القوة تدريجيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.




