آراء و مقالات

أوروبا بين أسر الأكاذيب ومآزق الواقع

رعايت الله فاروقي

صورة تعبيرية (رويترز)

في عالم السياسة الدولية يصعب أحياناً التمييز بين الحقيقة والدعاية. هذا ما تثبته تجربة أوروبا اليوم في تعاملها مع أزمة أوكرانيا حيث اختلطت الحقائق بالأوهام وسقطت العواصم الأوروبية في فخ بروباغندا صنعتها بأيديها حتى باتت أسيرة لها عاجزة عن الفكاك.

تقوم فلسفة البروباغندا على قاعدة بسيطة: “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس“. ومع الزمن تطور هذا المفهوم ليصبح “اكذب حتى تصدق نفسك“. هذا تحديداً ما حدث في أوروبا خلال السنوات الماضية. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي احتاج المجمع الصناعي العسكري الأمريكي إلى “عدو دائم” يبرر استمرار تدفق الأموال نحو الصناعات العسكرية وكان من الطبيعي أن يتم اختيار روسيا لهذا الدور.

هكذا بدأ مسلسل طويل من التخويف والتهويل، يصور روسيا على أنها الخطر الأكبر على الأمن الأوروبي ويؤكد للأوروبيين أنهم في مقدمة المستهدفين. الخوف المصطنع صنع سوقاً ضخمة للسلاح الأمريكي في أوروبا حتى باتت دول الاتحاد الأوروبي من أكبر زبائن الصناعة العسكرية الأمريكية.

ثم جاءت الأزمة الأوكرانية لتصبح الامتحان العملي لهذه البروباغندا. هنا لم يكتفِ الأوروبيون بتصديق الأكاذيب بل بدأوا في بناء أحلام اقتصادية عليها. تم إقناعهم بأن أوكرانيا تملك ثروات معدنية هائلة تقدر قيمتها بـ15 تريليون دولار وأنها بعد انضمامها للناتو ستصبح هذه الثروات في قبضة الحلفاء. ليس هذا فحسب بل وُعدوا أيضاً بأن الحرب ستنتهي بتقسيم روسيا إلى خمس دويلات ليتم تقاسم مواردها الضخمة بين الدول المنتصرة.

ظلت هذه الأحلام تُسوق في العواصم الأوروبية على مدار 16 عاماً حتى تحولت إلى “حقائق مقدسة” في عقول صناع القرار. لكن الصدمة الكبرى جاءت حين أدت العقوبات على روسيا إلى حرمان أوروبا من الغاز الروسي وهو الشريان الحيوي لاقتصادها الصناعي. ومع ذلك، لم يُظهر الأوروبيون أي مرونة في مراجعة مواقفهم بل مضوا في الأزمة وكأنهم على يقين تام بأن نهاية الحرب ستجلب لهم كنوز روسيا وأوكرانيا معاً.

ضمن هذا المشروع الدعائي ظهرت ثلاثة روايات جانبية، كلها تعكس نفس العقلية:

1– السيناتور الأمريكي جون مكين وصف روسيا بأنها “محطة وقود متنكرة في هيئة دولة”. تكرار هذه العبارة على مدى سنوات جعل الأوروبيين ينسون أن روسيا ليست مجرد مورد طاقة بل ثاني أقوى قوة عسكرية في العالم.
2– مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل قال إن: “أوروبا حديقة جميلة وما حولها غابة متوحشة”. لكن بعد شهور قليلة غرقت هذه “الحديقة” في أزمة طاقة غير مسبوقة وانزلقت ألمانيا نحو “تفكيك صناعي” حقيقي.
3– رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين ادعت أن العقوبات جعلت روسيا تفكك الغسالات لاستخراج رقائقها الإلكترونية لوضعها في الصواريخ! هذا الاتهام الساخر وُجِّه إلى دولة كانت أول من أرسل إنساناً إلى الفضاء!

اليوم يجد الأوروبيون أنفسهم في مأزق وجودي. فهم لا يستطيعون التراجع عن أكاذيبهم خوفاً من فقدان ماء الوجه، ولا يملكون أدوات تمكنهم من فرض واقع جديد. ومع تغير المزاج السياسي في واشنطن خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تتضاعف العزلة الأوروبية.

ترامب بدأ بالفعل في رسم سياسة جديدة تقوم على التفاهم المباشر مع روسيا متجاهلاً تماماً رغبات أوروبا. وحتى عندما طرح مشروع قرار في مجلس الأمن لإنهاء الحرب دعمه الروس والصينيون، بينما امتنعت الدول الأوروبية عن التصويت في موقف يعكس الحرج وفقدان الاتجاه.

وفي ضربة أخرى، وصف ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه “ديكتاتور”، بينما رفض وصف بوتين بذلك ما أثار استياء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ورغم أن الحل أمام أوروبا واضح وسهل وهو العودة للغاز الروسي وإنقاذ اقتصادها، فإن العائق الأكبر ليس روسيا ولا أمريكا بل “أوهام” نسجها الإعلام الأوروبي طوال عقدين. أكاذيبهم القديمة باتت تشكل قيوداً على قراراتهم الحالية وكأنهم أصبحوا أسرى لرواياتهم الخاصة.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل تمتلك أوروبا الشجاعة للاعتراف بالحقيقة والبحث عن مصالحها بعيداً عن التبعية العمياء لواشنطن؟ أم أنها ستواصل العيش في وهم “الحديقة الجميلة” حتى تسقط نهائياً في مستنقع الأزمات الاقتصادية والسياسية؟

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا