
فريق UrKish News
في كثير من الجامعات، تُنجز آلاف الرسائل الأكاديمية سنويا لكن أثرها في الواقع يكاد يكون معدوما. تنتهي هذه الرسائل إلى رفوف المكتبات أو الأرشيفات الرقمية دون أن تُحدث تغييرا في السياسات أو تسهم في تطوير المعرفة. المشكلة ليست في الباحث وحده بل في منظومة كاملة فقدت توازنها بين “التعلم والإنتاج” وبين “المعالجة والإبداع“.
أولى الإشكاليات تكمن في طبيعة البحث نفسه. كثير من الرسائل تبدأ بأسئلة غامضة أو مكرّرة وتستند إلى مراجعات أدبية سطحية وإلى مناهج جاهزة من بيئات مختلفة لا تراعي خصوصية السياق المحلي. يتحوّل البحث إلى تمرين أكاديمي أكثر من كونه مشروعا لفهم أو تفسير جديد. النتائج تكون ضيقة النطاق، لا تُنتج نظرية ولا تفتح بابا لتطبيق عملي.
في العديد من الدول النامية، تُترجم هذه الأزمة إلى شكل أكثر وضوحا. الباحثون غالبا يلتزمون بحدود ضيقة تفرضها الجامعات والممولون. تُختار الموضوعات بحسب سهولة النشر أو تكرار التنفيذ وليس بحسب الحاجة المجتمعية أو الفجوة المعرفية. يضاف إلى ذلك ضعف الإشراف الأكاديمي وقلة التدريب على النقد والتحليل ما يجعل الباحث تابعا لمنهج جاهز لا مُنتجا لمعرفة جديدة.
العامل الأخطر هو الضغط المؤسسي نحو الكمّ على حساب النوع. نظام “انشر أو اختفِ” يدفع الأكاديميين إلى إنتاج أوراق سريعة بلا عمق ويشجّع الطلبة على معالجة بيانات جاهزة بدل بناء فرضيات مبتكرة. التقييم الجامعي لا يقيس أثر البحث في المجتمع أو في تطوير الحقول المعرفية بل يقيس عدد المقالات والمجلات المفهرسة. بهذه الطريقة يصبح النشر هدفا في ذاته لا وسيلة لنشر معرفة ذات قيمة.
التمويل بدوره يكرّس المشكلة. في كثير من الأحيان، تُموّل الأبحاث بهدف تنفيذ مشاريع جاهزة أو تكرار تجارب عالمية لا بهدف إنتاج نظرية محلية. التمويل المشروط يجعل الباحث أسيرا لأجندة الممول في حين يُهمَل البحث المستقل أو المرتبط بمشكلة وطنية. النتيجة أن الجامعات تنتج معرفة تقنية لكنها قليلة الجذر في واقعها وتبقى تابعة معرفيا.
الأثر الاجتماعي لهذه الظاهرة كبير. المجتمعات لا ترى نتيجة ملموسة للبحوث الجامعية فتفقد الثقة بالمؤسسات الأكاديمية. الحكومات لا تعتمد على الأبحاث في اتخاذ القرار لأنها لا ترى فيها قيمة مضافة. والجامعات نفسها تخسر دورها كمحرك للتنمية والتفكير النقدي. في المقابل، يستمر الباحث في إنتاج أعمال متكررة تملأ السجلات ولا تغيّر الواقع.
إصلاح هذا الوضع يتطلب إعادة بناء المنظومة من جذورها. البداية تكون من سؤال البحث الذي يجب أن ينبع من حاجة واقعية لا من نماذج جاهزة. الإشراف الأكاديمي يحتاج إلى متابعة حقيقية تشجع على التفكير والتحليل لا على النقل والتكرار. على الجامعات أن تربط أبحاثها بالجهات القادرة على تطبيق النتائج، سواء كانت مؤسسات حكومية أو خاصة. معايير التقييم يجب أن تُراجع لتشمل الأثر الميداني والاجتماعي لا عدد الصفحات أو المجلات.
كما أن الثقافة البحثية يجب أن تتغيّر. على الباحث أن يرى في الفشل جزءا من العملية العلمية لا عيبا يخفيه. وعلى المؤسسة أن تحتفي بالبحث الذي يطرح سؤالا حتى لو لم يقدّم إجابة جاهزة. المطلوب أيضا تمويل بحثي مرن يُتيح حرية الاختيار والتجريب ويشجع على الابتكار.
أزمة البحث الأكاديمي ليست عابرة. إنها أزمة تفكير في معنى المعرفة وجدواها. إذا استمرت الجامعات في إنتاج أبحاث بلا أثر ستتحول من مصدر للتجديد إلى مؤسسة إدارية تنتج أوراقا لا حياة فيها. أما إذا أعادت تعريف هدفها فستعود الرسائل الجامعية إلى دورها الأصلي: بناء معرفة حيّة وتحريك المجتمع نحو الفهم والتغيير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News




