
محمد دين جوهر
منذ استقلالها عام 1947، شكلت الهند نموذجًا فريدًا للديمقراطية الليبرالية في عالم الجنوب خصوصًا بالنظر إلى حجمها السكاني وتنوعها الثقافي والديني غير أن هذا النموذج الذي كان يُحتفى به لعدة عقود يبدو اليوم وكأنه ينهار أمام مدّ أيديولوجي جديد – قديم يتمثل في مشروع “الهندوتفا” (Hindutva) حيث بات الفكر الهندوتفائي يشكّل الإطار المرجعي الأول للسياسة الهندية المعاصرة، وخصوصًا منذ صعود حزب “بهاراتيا جانتا” إلى السلطة.
عند فجر الاستقلال، تبنّت الهند دستورًا علمانيا يضمن الحريات الفردية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم لكن هذا البناء الدستوري حمل منذ البداية بذور توتر، لا سيما مع تنامي الحركات القومية الهندوسية التي لم ترَ في هذا التعايش المتعدد سوى تهديد لهويتها التاريخية.
الهندوتفا، كأيديولوجيا لا تسعى فقط إلى استعادة ماضٍ “هندوسي” متخيل بل تسعى إلى إعادة تشكيل الحاضر والمستقبل وفق رؤية أحادية تستبعد الآخر – وخاصة المسلمين – من المجالين السياسي والثقافي. هذه الأيديولوجيا التي تنهل من معين الفاشية الأوروبية رغم تمظهرها بلباس هندي تخلق مناخًا من الكراهية المؤسسية وتجعل من التعايش شبه مستحيل.
في هذا السياق، جاءت تصريحات رئيس الوزراء ناريندرا مودي الأخيرة في مدينة بيكانير لتكشف عن منسوب عالٍ من الهذيان الأيديولوجي والخطاب التحريضي ضد المسلمين، ليس فقط كمكون ديني بل كوجود تاريخي يجب محوه، هذه التصريحات تعكس اتجاها واضحا نحو تطبيع الكراهية وتغليفها بشرعية سياسية وشعبوية.
السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه التصريحات: هل يمكن أن يكون للهند في ظل هذا التوجه دور حضاري إيجابي في العالم المعاصر؟ من الواضح أن الخطاب الهندوتفائي يفتقر لأي رؤية إنسانية أو جامعة ولا يمكن له أن يُنتج نموذجا حضاريا قادرا على الإلهام أو القيادة.
في القرون الماضية، شهدت الهند لحظات فارقة كان يمكن لها أن تخلق تصورات حضارية كبرى لكن كما يلاحظ المؤرخون، فإن المجتمع الهندوسي لم يُنتج على مدار تاريخه تصورًا سياسيا متماسكا أو نظاما عالميا شاملاً. وتجربة الإمبراطور المغولي “أكبر” مثال صارخ على ذلك؛ فحين حاول الخروج من المنظومة الإسلامية بحثًا عن بديل من الأغلبية الهندوسية لم يجد في الثقافة الهندوسية ما يساعده على بناء رؤية سياسية متكاملة.
اليوم، يعيد الهندوتفا تكرار هذا العجز لكن بطريقة أكثر تطرّفًا. فهو لا يملك أدوات ذاتية لبناء مشروع حضاري ويعتمد على محاكاة نماذج فاشية غربية سواء من حيث الخطاب أو تنظيم السلطة أو آليات الإقصاء. وبذلك فإن الهندوتفا يمثل حالة “استيراد ثقافي عكسي” لمفاهيم أجنبية ولكن بلباس قومي.
من بين الأهداف الأساسية للهندوتفا فكرة “أكھنڈ بھارت” أو “الهند العظمى” وهي رؤية ترى باكستان وبنغلاديش كأجزاء يجب أن تُعاد إلى الحضن الهندوسي. هذا الطموح رغم استحالته الواقعية يحرّك السياسات الهندية ويضبط بوصلة الصراع، ليس فقط مع الخارج بل أيضًا مع الأقليات في الداخل وخاصة المسلمين الذين يُنظر إليهم كجسم غريب أو كطابور خامس.
غير أن ما يغيب عن أصحاب هذا الطموح هو أن القضاء على باكستان لا يعني فقط القضاء على دولة بل انهيار توازن إقليمي هش سيبتلع الهند نفسها. إن المنطقة بكل تركيبتها السكانية والتاريخية لا تحتمل مشروعا إقصائيا بهذا الحجم.
من المهم الإشارة إلى أن هناك تشابها ظاهريا بين الهندوتفا ونظرية “الدولتين” التي تأسس عليها قيام باكستان. كلاهما يرى في الآخر تهديدا وجوديا. لكن الفارق الجوهري هو أن نظرية “الدولتين” حاولت من حيث المبدأ إيجاد حل للتنوع الديني عبر التقسيم السياسي، بينما تسعى الهندوتفا إلى محو الآخر داخل الدولة نفسها وتستهدف اجتثاثه من التاريخ والذاكرة.
والأخطر من ذلك أن الهندوتفا – على عكس “الدولتين” – لم تكن جزءًا من حركة التحرر من الاستعمار، بل ظهرت لاحقًا كمشروع رجعي يتغذى على أساطير الماضي ويستبعد المعالجة الواقعية لقضايا الحاضر.
المستقبل السياسي لجنوب آسيا لا يمكن أن يُبنى على الكراهية والإقصاء. لقد أثبتت التجربة أن المسلمين والهندوس محكومون بالتعايش، سواء في دولة واحدة أو في إقليم مشترك. والمشروع الهندوتفائي، بما يحمله من تطرف وغلو لا يشكل خطرًا على المسلمين فقط، بل هو تهديد مباشر للهند نفسها لتاريخها ولهويتها ولمكانتها العالمية.
إن اللحظة التاريخية الراهنة تتطلب من قادة الفكر والسياسة في المنطقة إعادة التفكير في الأسس التي يقوم عليها العيش المشترك وبناء تصورات سياسية جديدة تقوم على التعددية والعدالة، بدلًا من إعادة إنتاج صراعات الهوية بشكل مميت.
االمقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة حسن محمود والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.