عمار علي جان

في خطوة أثارت جدلًا واسعًا على الساحة الدولية، قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وقف تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مما يعكس تحولًا كبيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية منذ إنشائها عام 1961 على يد الرئيس “جون كينيدي” كان الهدف المعلن لهذه الوكالة هو دعم التنمية في دول العالم الثالث، لكن في الواقع كانت USAID أداة استراتيجية استخدمتها واشنطن لتعزيز نفوذها العالمي خصوصًا خلال الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي.
منذ تأسيسها، لعبت USAID دورًا أساسيًا في دعم الحكومات الموالية لأمريكا لا سيما في الدول التي كانت تعاني من عدم الاستقرار السياسي بعد الاستقلال من الاستعمار الأوروبي. في خمسينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة قلقة من أن العديد من هذه الدول تتجه نحو النموذج الاشتراكي في التخطيط الاقتصادي مستلهمة تجربة الاتحاد السوفيتي في تحقيق التنمية رغم الظروف الصعبة بعد الحرب العالمية الثانية.
لمواجهة هذا الاتجاه، اعتمدت واشنطن على المساعدات الاقتصادية كأداة لتعزيز مصالحها. وفرت USAID دعمًا ماليًا لحكومات العالم الثالث مما أتاح للنخب الحاكمة تقديم نموذج “تنموي” دون الحاجة إلى تنفيذ إصلاحات جوهرية. كما لعبت الوكالة دورًا محوريًا في تمويل وتدريب حركات المعارضة داخل الدول الاشتراكية بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). ومن أبرز الأمثلة على ذلك دعمها لحركة “التضامن” في بولندا والتي خُصص لها 25 مليون دولار أمريكي، وهو ما دفع الكاتب الأمريكي “مايكل بارينتي” إلى وصفها بأنها “أغلى ثورة في التاريخ”.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، لم تتوقف USAID عن لعب دورها بل أعادت توجيه استراتيجياتها. في العديد من الدول، مثل باكستان وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية ضخت الوكالة أموالًا هائلة لدعم التحول “الديمقراطي” لكنه كان تحولًا موجّهًا لضمان استمرار الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
خلال هذه الفترة، عززت الوكالة نموذج النيوليبرالية حيث تم تخصيص التعليم والصحة والخدمات العامة وأعيدت هيكلة الاقتصادات بما يخدم الشركات متعددة الجنسيات. ونتيجة لذلك، أصبح بعض وزراء المالية في دول مثل باكستان موظفين سابقين لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مما جعل السياسات الاقتصادية لهذه الدول متماشية مع مصالح المؤسسات المالية الغربية.
الباحث “جايسون هيكل” يوضح في أبحاثه أن الدول الغربية تحقق مكاسب هائلة من هذا النموذج حيث تحصل على 300 دولار كأرباح مقابل كل دولار واحد تقدمه كمساعدات لدول العالم الثالث.
يطرح قرار ترامب بوقف تمويل الوكالة تساؤلات حول دوافعه الحقيقية. فبينما دعم الرؤساء السابقون USAID كوسيلة لتعزيز القوة الناعمة الأمريكية، يرى ترامب أن هذا “الهدر المالي” يجب أن يتوقف معتبرًا أن المساعدات الخارجية تُضعف الاقتصاد الأمريكي ولا تخدم مصالح المواطن الأمريكي العادي.
يرتبط هذا التوجه بتغيرات داخلية في الولايات المتحدة نفسها. فقد استفادت الشركات الكبرى من العولمة، لكنها في الوقت نفسه تسببت في نقل الصناعات إلى الخارج مما أدى إلى تراجع فرص العمل داخل أمريكا. ووفقًا لديفيد هارفي، فإن الأجور الحقيقية للعمال الأمريكيين لم تزداد منذ عام 1973 مقارنة بالتضخم مما أدى إلى اتساع فجوة الدخل داخل المجتمع الأمريكي.
في ظل هذا الواقع، تبنى ترامب خطابًا قوميًا يحمّل العولمة مسؤولية تراجع التصنيع في أمريكا ويعتبر أن وقف تمويل المؤسسات مثل USAID جزء من استراتيجية أوسع لإعادة توجيه الموارد نحو الداخل الأمريكي.
إلا أن هذا التحول لن يكون بلا تداعيات دولية. فقد بدأت بعض الدول في اتخاذ إجراءات مضادة حيث فرضت كل من المكسيك وكندا تعريفات جمركية على المنتجات الأمريكية ردًا على سياسات ترامب التجارية، بينما أعلنت الصين عن إجراءات انتقامية ضد الشركات الأمريكية.
ووفقًا للباحثة “راديكا ديزاي” فإن هذه السياسات قد تؤدي إلى ارتفاع التضخم داخل الولايات المتحدة، كما أنها ستشجع على تشكيل تحالفات اقتصادية وسياسية جديدة مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بطرق غير متوقعة.
إن قرار ترامب بوقف تمويل USAID ليس مجرد إجراء إداري، بل يعكس صراعًا أعمق داخل السياسة الأمريكية بين من يؤمنون بالقوة الناعمة والتدخلات غير المباشرة وبين من يرون أن أمريكا يجب أن تتبنى نهجًا أكثر عدوانية في فرض مصالحها. وبينما قد يؤدي هذا التحول إلى تقليص نفوذ USAID فإن البديل قد يكون أكثر صراحةً ووضوحًا: الضغط العسكري والاقتصادي المباشر على الدول التي لا تتماشى مع المصالح الأمريكية.
السؤال المطروح الآن هو: هل سيؤدي هذا التوجه إلى تعزيز مكانة أمريكا عالميًا أم أنه سيسرع من تآكل نفوذها ويفتح المجال أمام قوى جديدة لتشكيل النظام العالمي؟
المصدر: المقال باللغة الأردية وتم تلخيصه باللغة العربية بواسطة ثاقب حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.