
عند الحديث عن الميزانية الدفاعية لأي دولة، يُثار جدل واسع في الأوساط السياسية والإعلامية وغالبا ما تُطرح تساؤلات حول أولويات الإنفاق وخاصة في ظل إهمال قطاعات تمس حياة المواطن مباشرة مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
وإذا كانت هذه الظاهرة مألوفة في دول العالم الثالث فإن المشهد الأمريكي يُعد استثناءً مثيرا للدهشة.
ففي الولايات المتحدة، لا يقتصر الأمر على تلبية مطالب وزارة الدفاع بل يتجاوزها إلى زيادات إضافية من قِبل الكونجرس. ففي عام 2018، طلب البنتاجون ميزانية قدرها 677 مليار دولار لكن الكونجرس اعتمد 700 مليار.
وفي 2022، طلبت وزارة الدفاع 773 مليارا فتمت الموافقة على 830 مليار دولار بعد تعديلات من الكونجرس شملت بنودا إضافية.
المفارقة أن هذا الإنفاق الهائل لا يُقابل باعتراض شعبي واسع لأن الخطاب الموجه للمواطن الأمريكي يربط بين هذه الميزانيات والولاء الوطني، تحت شعار “Patriotism”. ويُستخدم هذا المفهوم لتبرير أي تضخم في الإنفاق العسكري حتى وإن كانت نتائجه المالية كارثية على الدولة.
السبب الحقيقي لهذا السخاء لا يكمن في الأمن القومي فحسب بل في طبيعة الصناعات الدفاعية الأمريكية. فصناعة الأسلحة في الولايات المتحدة لا تخضع لملكية الدولة، إنما لرجال المال في وول ستريت وتُعد وزارة الدفاع أكبر زبون لديهم. بل أكثر من ذلك، تقوم الحكومة بدور الوسيط والمسوّق الخارجي لهذه الشركات حيث تدفع من ميزانيتها لتغذية هذه المصانع ثم تسوّق لها على مستوى العالم تحت غطاء “الدفاع المشترك” أو “المساعدات الدفاعية”.
وبالتالي، فإن الجنرالات يطلبون والحكومة تُدرج الطلبات في الموازنة والكونجرس يُضيف عليها مكافأة والرقابة غائبة أو شكلية في أحسن الأحوال.
وفي الحالات التي تندلع فيها الحروب يصبح الطلب على السلاح مضاعفا. حرب أوكرانيا مثال واضح على هذا التصاعد وكذلك الهجوم الإسرائيلي الأخير ضد إيران والذي استهلك إنتاج سنة كاملة من الأسلحة الأمريكية خلال 12 يوما فقط. مثل هذه الأزمات تمثل “فرصا استثنائية” لشركات الدفاع الأمريكية التي تربح من كل طلقة تُطلق.
بل إن البنتاجون لم ينجح في اجتياز أي تدقيق مالي رسمي منذ أكثر من سبع سنوات ومع ذلك لا يتم فتح أي تحقيق جدي، وكأن فشل الحسابات أصبح أمرا طبيعيا. وفي المقابل، تتجه المليارات نحو شركات الأسلحة سواء من خلال مشتريات محلية أو مساعدات عسكرية خارجية.
الدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية لا تدفع ثمنها بل تُسدَّد من الخزانة الأمريكية إلى الشركات الخاصة، فتتحقق الفائدة الاقتصادية لشركات وول ستريت (Wall Street) ويتم الحفاظ على النفوذ السياسي الأمريكي في الدول المستفيدة. نموذج باكستان – التي حصلت على طائرات F-16 كمساعدة – مثال بسيط على ما يحدث بشكل أوسع وأعمق.
الحروب الأمريكية لا تُدار فقط بالسلاح بل تفتح أسواقا هائلة للمنتجات والخدمات. كل شيء – من الذخائر إلى المستلزمات اليومية – يُورد عبر عقود خاصة. وحتى في مرحلة “إعادة الإعمار” تُمنح شركات أمريكية عقودا ضخمة بأسماء براقة تُخفي خلفها تضخما في الفواتير وفسادا محميا.
وتُمنح شركات مثل “هاليبرتن” و”ريثيون” و”بوينغ” هذه العقود بمليارات الدولارات وغالبا ما تكون الأرقام مضخمة.
شركة “هاليبرتن” المرتبطة بنائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني حصلت في حرب العراق على عقود بلغت 16 مليار دولار، رغم أن قيمة الخدمات الفعلية لم تتجاوز 2.5 مليار والباقي تم تحميله في إطار “المعتاد”.
ليس هذا فحسب بل وفقا لتقرير “مشروع تكلفة الحرب” (Costs of War Project) الصادر عن جامعة براون، فقد شهدت عقود الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وحدها نسبة فساد بلغت 30% وهو ما يمثل مبالغ تصل إلى تريليونات من الدولارات.
وإذا كانت عمليات النهب المقننة تتم عبر عقود الدفاع والتوريد، فإن قصص الفساد الفردية تُواجه بصرامة شديدة – لكن فقط حين تخرج عن النسق الجماعي ليُستخدم كمثال يثبت”نزاهة” الدولة.
ففي العراق، تلقى ضابط أمريكي جون كوكارهام رشاوي بقيمة 30 مليون دولار فحوكم بصرامة ليكون عبرة. وكذلك مسؤولة البنتاغون دارلين درویون التي قدمت تسهيلات لشركة بوينغ فنالت عقوبة صارمة. الرسالة هنا واضحة: يمكنك أن تكون جزءًا من الفساد ما دام منظّما وجماعيا لكنك لن تُسامَح إذا حاولت الاستفراد بالكعكة.
أما من يلتزم باللعبة فيُكافأ لاحقا. الجنرالات يُعيَّنون في مجالس إدارات شركات الأسلحة والساسة ينالون مواقع شرفية في شركات الأدوية أو الطاقة أو الإعلام. الأجور باهظة والمهام شكلية والمردود الحقيقي هو الاعتراف بالخدمة التي قدموها خلال فترة ولايتهم. بعضهم يظهر في القنوات الإعلامية كمحللين استراتيجيين لا لشيء إلا لتبرير السياسات التي ساهموا في صناعتها.
كل هذا يحدث في ظل تفاقم الدين العام الأمريكي الذي تجاوز 37 تريليون دولار. في الوقت ذاته، جرى تهميش التعليم والبحث العلمي مما أدى إلى تراجع ترتيب الولايات المتحدة في مؤشرات الابتكار.
فاليوم، تحتل الصين ثمانية مراكز من بين أفضل عشرة مراكز بحثية في العالم بينما لا تحتل الولايات المتحدة سوى مركز واحد فقط.
الحروب في أفغانستان والعراق لم تكن فقط حروبا سياسية بل كانت مشاريع اقتصادية عملاقة تم فيها نهب الخزينة الأمريكية باسم الأمن والديمقراطية. والشعب الأمريكي، رغم وعيه الظاهري، وقع فريسة لشعار “الوطنية” بينما يستمر تآكل قوته الاقتصادية والعلمية.
المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة حسن محمود والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.