
حسن محمود
تتأسس الجماعات المسلحة ضمن مخطط واضح ولا تنشأ نتيجة تجمع عفوي لأفراد يملكون هدفًا مشتركًا. التجارب التاريخية توضح أن وجود هذه الجماعات مرتبط دائمًا بدعم أو تأسيس من وكالات استخبارات بهدف تنفيذ مصالح استراتيجية بعيدًا عن المسؤولية المباشرة للدولة.
فهم هذه الظاهرة يحتاج دراسة أسباب نشوء الجماعات وهيكلها التنظيمي وطريقة تفكيرها إذ يكشف عن أدوات أساسية في السياسة الخارجية الحديثة.
قبل الحرب العالمية الثانية، وضعت الاتفاقيات الدولية قيودًا صارمة على الاحتلال العسكري المباشر أبرزها ميثاق كيلوغ-بريان 1928 (Kellogg–Briand Pact) وقرارات أممية التي حرمت السيطرة العسكرية المباشرة على أراضي الدول الأخرى.
ومع تأسيس الأمم المتحدة وُضعت قوانين إضافية لتنظيم الحروب وفق نفس المبادئ لكن الدول الغربية تجاوزت هذه القيود عند الحاجة فابتكرت طريقة جديدة تعتمد على دعم جماعات مسلحة محلية بدل التدخل المباشر لضمان مصالحها الاستراتيجية دون مسؤولية مباشرة.
أول تطبيق واضح لهذا الأسلوب كان الولايات المتحدة عبر عملية خليج الخنازير عام 1961 (Bay of Pigs Operation) حين دربت CIA نحو 1400 مسلح كوبي بهدف السيطرة على كوبا. هبط هؤلاء في الخليج يوم 17 أبريل وواجهوا قوات فيدل كاسترو وانتهت العملية بفشل كامل خلال ثلاثة أيام ما أدى إلى أزمة سياسية داخل واشنطن وأثر على علاقة الرئيس كينيدي بوكالة الاستخبارات.
هذه التجربة أبرزت محدودية التحكم بالجماعات المسلحة ووضعت درسًا واضحًا حول مخاطر استخدام أدوات مسلحة خارج المؤسسات الرسمية.
رد الاتحاد السوفيتي جاء عبر دعم الجماعات الفلسطينية أبرزها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي نفذت سلسلة عمليات خطف طائرات بين 1968 و1986 مستهدفة الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها. نفذت الجبهة ثماني عمليات من أصل 28 وشاركت ليلى خالد شخصيًا في عمليتين، واحدة نجحت والأخرى فشلت وتم اعتقالها.
هذه التجربة أظهرت كيف تتحول الجماعات المسلحة من أدوات إرهاب محدودة إلى أدوات استراتيجية للدول الكبرى.
توسع هذا الأسلوب لاحقًا، فالهند دعمت جماعات مسلحة مثل المکتی باهنی في قضية انفصال بنجلاديش واعتمدت دول أخرى هذا النموذج في أمريكا اللاتينية وآسيا لتحويل الجماعات إلى أدوات دائمة في السياسة الخارجية تستخدم لتقليل الخسائر المباشرة لقواتها النظامية وتحقيق أهداف استراتيجية دون التصريح الرسمي بالمسؤولية.
في باكستان، ارتبط الإرهاب غالبًا بدعم المجاهدين الأفغان خلال الحرب الباردة لكن الخطأ الكبير كان نقل هذه التجربة إلى كشمير. آلاف المواطنين أُرسلوا إلى معسكرات تدريب في أفغانستان ثم أُعيد دمجهم في المناطق القريبة من كشمير ما خلق بيئة اجتماعية مشجعة للعمل المسلح. انتشار مكاتب التنظيمات وجمع التبرعات وعقد الاجتماعات جعل المواطن المحلي جزءًا من الصراع وصعّب تفكيك الجماعات لاحقًا.
هذه البيئة ساهمت أيضًا في تمجيد الشخصيات العسكرية التاريخية ما جعل نشوء جماعات مسلحة جديدة مثل طالبان مقبولًا اجتماعيًا.
تجربة روسيا الحديثة تقدم مثالًا آخر. مجموعة فاغنر (Wagner Group) تأسست عام 2014 للعمل خارج المؤسسة العسكرية الرسمية وشاركت في سوريا وأوكرانيا حيث لعبت دورًا مهمًا في معركة بخموت. لاحقًا، تحدى قائدها يفغيني بريغوجين (Yevgeny Prigozhin) القيادة العسكرية الروسية قبل أن يُقتل في حادث طائرة. أعيد تنظيم المجموعة وتحويلها إلى فيلق إفريقيا ما يؤكد أن استخدام مقاتلين شبه رسميين يحمل مخاطر على الدولة نفسها.
التجارب الدولية الأخرى تؤكد نفس النمط. الولايات المتحدة دعمت المجاهدين في أفغانستان ضمن Operation Cyclone بين 1979 و1992 وتحوّلت بعض هذه الجماعات لاحقًا إلى تنظيمات إرهابية مستقلة أثرت على الاستقرار الإقليمي. دعم جماعات Contras في نيكاراغوا أدى إلى حرب أهلية طويلة وأزمة إنسانية.
المملكة المتحدة نفذت Operation Gladio شبكة سرية ضمن NATO تورطت في اغتيالات وعنف سياسي مع إمكانية إنكار أي مسؤولية رسمية.
الاتحاد السوفيتي دعم جماعات شيوعية ومتمردة في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا بين 1945 و1991 لتوسيع نفوذه السياسي والعسكري. روسيا الحديثة بعد 2014 استخدمت مرتزقة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية دون المخاطرة بقواتها النظامية.
النتيجة كانت متشابهة عالميًا حيث خرجت الجماعات المدعومة خارجيًا عن السيطرة وتصاعدت النزاعات الداخلية وتحولت بعضها إلى تنظيمات إرهابية عابرة للحدود. هذه التجارب توضح أن دعم الحكومات لجماعات مسلحة ليس تكتيكًا قصير المدى بل أداة استراتيجية لتوسيع النفوذ الدولي مع آثار بعيدة على الاستقرار السياسي والأمني.
اليوم تواجه باكستان ثلاثة تحديات رئيسية تشمل التعامل مع الجماعات المسلحة النشطة مثل طالبان باكستان والجماعات البلوشية وتفكيك البيئة الاجتماعية التي تشجع على العسكرة ومواجهة الدول الداعمة لهذه التنظيمات مثل الهند وأفغانستان، كما أشار إليه المحلل العسكري رعايت الله فاروقي في مقال نشره موقع “We News“.
فهم هذه الديناميات يوفر إطارًا لفهم النزاعات الحديثة وأساليب الحروب المعاصرة ويبرز تأثير العلاقة بين الدول والجماعات المسلحة غير الرسمية على استقرار المناطق المختلفة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News




