
حسن محمود
في عالم تتسابق فيه الدول على ترسيخ نفوذها وترتيب مكانتها ضمن النظام الدولي، تتحدد “قامة الدول” ليس فقط بما تملكه من مساحة أو عدد سكان بل بناء على مجموعة معايير استراتيجية تشكل قوتها الحقيقية. وتشمل هذه المعايير الموقع الجغرافي، الموارد الطبيعية، البنية السكانية، التقدم التكنولوجي، القدرات الدفاعية، النفوذ الدبلوماسي والقدرة على التأثير الثقافي.
في هذا السياق، تبرز باكستان كحالة فريدة من التباين بين الإمكانات الهائلة والأداء غير المتكافئ مما يجعل تقييم مكانتها الدولية أمرا يحتاج إلى نظرة تحليلية شاملة، وهذا ما أشار إليه الصحفي الباكستاني والمحلل العسكري رعايت الله فاروقي في مقال نشره موقع “We News“.
يمنح الموقع الجغرافي باكستان أهمية جيوسياسية يصعب تجاهلها. تقع البلاد على تقاطع ثلاث مناطق إقليمية كبرى: جنوب آسيا، آسيا الوسطى والشرق الأوسط ما يجعلها حلقة وصل حيوية بين هذه الأقاليم. وتُعد أقرب وأأمن منفذ بري للصين – القوة الاقتصادية والعسكرية الصاعدة – بفضل مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني” (CPEC) الذي يمثل حجر الزاوية في مبادرة “الحزام والطريق“.
كذلك، فإن التطورات الإقليمية – خاصة بعد الثورة الإيرانية – زادت من أهمية باكستان باعتبارها طريقا بريا آمنا نحو الدول الحبيسة في آسيا الوسطى وحتى روسيا التي تنظر إلى الموانئ الباكستانية كخيار استراتيجي أكثر أمانا من نظيرتها الإيرانية.
ومؤخرا، أعلنت موسكو نيتها ربط شبكتها الحديدية بمدينة لاهور وهو ما يُعد مؤشرا صريحا على تنامي الثقة والاهتمام الروسي. كل هذا يُثبت أن الجغرافيا الباكستانية ليست مجرد مساحة بل ركيزة لقوتها الإقليمية والدولية.
تمتلك باكستان ثروات طبيعية متنوعة تشمل الفحم، النحاس، الذهب، الملح والغاز الطبيعي. ومع ذلك، فإن معظم هذه الموارد لم تُستثمر بالشكل الذي يعكس قيمتها الاقتصادية الحقيقية. ولعقود، ظل البحث عن النفط هو الهدف الأوحد فيما أُهملت بقية الثروات، الأمر الذي حال دون تحقيق أقصى استفادة منها في دعم الاقتصاد الوطني.
غياب السياسات الاستخراجية والتقنية، بالإضافة إلى سوء الإدارة، جعل من باكستان دولة غنية بالموارد لكنها فقيرة في استغلالها ما يُضعف قدرتها على تعزيز قوام اقتصادها الوطني.
يبلغ عدد سكان باكستان حوالي 240 مليون نسمة أكثر من 60٪ منهم دون سن الثلاثين ما يجعلها واحدة من أكثر الدول شبابا في العالم. هذه الحقيقة الديموغرافية تُعد فرصة ذهبية لأي حكومة تسعى للتنمية الشاملة إذ تُوفر قاعدة بشرية ضخمة يمكن تحويلها إلى قوة عمل منتجة.
لكن، وعلى الرغم من هذا الزخم، فإن غياب الرؤية وانشغال الطبقة السياسية بصراعات السلطة حوّلا هذه القوة السكانية إلى طاقة معطّلة لا تُستثمر في التعليم ولا في التدريب المهني ولا في التشغيل الفعلي. بعض المبادرات التقنية، مثل توزيع أجهزة الحاسوب المحمولة، اقتصرت على التجميل السياسي ولم تُترجم إلى مشروعات إنتاجية أو صناعية حقيقية.
برغم التصنيف العالمي الجيد نسبيا لاقتصاد باكستان من حيث القوة الشرائية، فإن البلاد لا تزال متخلفة من حيث امتلاك التكنولوجيا الحديثة. تبرز باكستان بقوة في صناعات محددة مثل المنسوجات، الأدوات الجراحية والسلع الرياضية – حتى أن كرات كأس العالم تُصنع في مدينة “سيالكوت“. ومع ذلك، يفتقر الاقتصاد إلى التنويع الصناعي والانتقال إلى الصناعات التقنية عالية القيمة ما يحدّ من قدرته على المنافسة.
أما الزراعة التي تُشكل نسبة كبيرة من الناتج المحلي، فلا تزال تُدار بأساليب تقليدية مما يجعلها غير قادرة على تحقيق أقصى طاقتها الإنتاجية في ظل غياب واضح للابتكار التكنولوجي.
تعاني باكستان من اقتصاد هش، يرزح تحت وطأة الديون وتنتشر فيه مظاهر الفساد مع غياب الاستقرار السياسي واستمرار تغيّر السياسات الاقتصادية بتغيّر الحكومات.
لا تزال البلاد عاجزة عن بناء بنية تحتية قوية أو استقطاب استثمارات كبرى تُحدث فارقا هيكليا. هذه الظروف دفعت بالشباب إلى حالة من الإحباط العام وإن كانت هذه الموجة سرعان ما تنكسر أمام موجات الولاء الحزبي الضيق الذي يستهلك الطاقات بدلا من أن يوجهها نحو البناء.
من بين أبرز مواطن القوة التي تحتفظ بها باكستان، قدراتها الدفاعية المتطورة. فهي تمتلك سادس أكبر جيش في العالم وهي إحدى الدول السبع التي تملك سلاحا نوويا. كما أن صناعاتها الدفاعية تشهد تطورا ملحوظا في مجالات عدة مثل إنتاج الدبابات والطائرات.
النجاحات العسكرية الأخيرة وخاصة في مواجهة الهند، أكدت على جاهزية القوات المسلحة وفاعليتها ليس فقط في إدارة النزاعات بل أيضا في فرض معادلة الردع. ولعل ما يميز المؤسسة العسكرية الباكستانية هو بعدها عن التسييس في مجال الأمن القومي إذ حافظت على أداء احترافي رغم التحديات الداخلية.
سجل الدبلوماسية الباكستانية حافل بالنجاحات بدءا من دورها المحوري في فتح قنوات الاتصال بين الولايات المتحدة والصين في سبعينيات القرن الماضي مرورا بإدارة الملف النووي بكفاءة عالية دون أن تتعرض البلاد لأي عدوان دولي كما حدث مع دول مثل العراق وليبيا.
وفي الملف الأفغاني، نجحت إسلام آباد في تحقيق أهدافها الاستراتيجية رغم الاتهامات الغربية المتكررة بلعب “دور مزدوج”. والأهم من ذلك، أنها تمكنت من تجنب تموضع أمريكي دائم على حدودها ثم عادت وأعادت علاقاتها مع واشنطن بشكل محسوب ومدروس. هذه القدرة على المناورة تُظهر أن باكستان، رغم كل ما يُقال، لا تزال لاعبا دبلوماسيا لا يُستهان به.
على الصعيد الثقافي، تحتفظ باكستان بموقع مميز، كونها الحاضنة الرئيسية للغة الأردية التي يتحدث بها أكثر من 300 مليون إنسان. وتمتلك إرثا أدبيا وشعريا غنيا، فضلا عن ريادة واضحة في الموسيقى الصوفية كما يتجلى في أعمال فنانين عالميين مثل نصرت فتح علي خان.
في العقد الأخير، أصبح برنامج “كوك ستوديو باكستان” نموذجا ثقافيا يحتذى به في العالم بما يقدمه من تنوع موسيقي أصيل وحديث.
أما الدراما الباكستانية، فقد احتفظت بجمهورها وخصوصيتها رغم المنافسة الشرسة، فيما تشهد الحرف اليدوية والأزياء الباكستانية تقدما في عدد من الأسواق العالمية.
كذلك، يشكل التصوف الصوتي (الإنشاد، التواشيح، التلاوة) بعدا روحيا مميزا في قوة باكستان الناعمة، وصلت أصداؤه إلى موسيقيين غربيين يُجرّبون أنماطه ويستوحون منه.
رغم أن باكستان تُظهر تفوقا في بعض المجالات – كالجغرافيا، الدفاع والدبلوماسية – إلا أنها تُعاني ضعفا بنيويا في قطاعات أخرى مثل التكنولوجيا، الاقتصاد والحوكمة. هذا التباين يجعل قامة الدولة “متوسطة” في النظام الدولي.
لكن المؤسف أن مكامن القوة الكامنة لا تزال رهينة غياب الرؤية وتحت وصاية طبقة سياسية تُفضل الاستقطاب على البناء. إن لحظة التحول تبدأ حين تُقرر الأمة رفض الوصاية المزمنة واستثمار إمكاناتها في مشروع وطني جامع يُخرج الدولة من دائرة التردد إلى فضاء الفاعلية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News