
أمينة أحمد
استقالة المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ورئيس قسم الأخبار جاءت وسط جدل واسع حول تحرير خاطئ لخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لكنها تكشف أزمة أعمق بكثير داخل المؤسسة الإعلامية البريطانية.
بينما تركز العناوين على خطأ تحرير واحد، يكمن الخلل الحقيقي في الفشل المؤسسي للهيئة في تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة بموضوعية وشجاعة وهو فشل لا يقل خطورة عن أي أخطاء فردية.
التحيز المؤسسي في التغطية
تقرير صادر عن مركز مراقبة الإعلام حلل أكثر من 35 ألف مادة من BBC بين أكتوبر 2023 ومايو 2025 وخلص إلى أن تغطية الهيئة لغزة فضّلت وجهة النظر الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين، وفق تقرير نشره موقغ “MEE” البريطاني.
التقرير أبرز فجوة ضخمة في التغطية: وفاة كل فلسطيني حظيت بتغطية أقل 33 مرة من وفاة إسرائيلية وتم استخدام كلمات مثل “قتل” و”مجزرة” بشكل أكبر عند الحديث عن الإسرائيليين، في حين أهملت معاناة الفلسطينيين الإنسانية وتم تقديمهم كضحايا سلبيين بلا تاريخ أو حقوق.
التقرير كشف أيضًا أن 0.5 بالمئة فقط من التقارير أشارت للاحتلال الإسرائيلي المستمر وذكرت 2 بالمئة فقط كلمة “أبارتهايد” (Apartheid) والفصل العنصري على الرغم من اعتمادها من قبل منظمات حقوق الإنسان الكبرى. المركز وصف هذه الممارسات بالتحيز المؤسسي إذ تبنت BBC لغة الدولة الإسرائيلية وأطرها، بينما أهملت أصوات الفلسطينيين وقدمت ذلك على أنه “توازن” صحفي.
ضغوط سياسية وإعلامية
تستغل وسائل الإعلام اليمينية في بريطانيا كل شكوى إسرائيلية ضد BBC في حرب ثقافية داخلية. كل اتهام بالتحيز أصبح أداة للضغط على الهيئة لإجبارها على الحذر الدائم ما دفع BBC خلال العام الماضي إلى تبني سياسة الإرضاء بدلا من دعم صحفييها أو الالتزام بواجبها في نقل الحقيقة.
استقالات ديبورا تورنس وتيم ديفي تعكس هذا التناقض. رغم إعلان تورنس أن الادعاءات الأخيرة بالتحيز المؤسسي خاطئة، شهد موظفوها على بيئة تحريرية قائمة على الخوف حيث قد يؤدي إثارة مخاوف بشأن التحيز ضد الفلسطينيين إلى الإضرار بالمسيرة المهنية. كما أن تصريحات الإدارة خلال اجتماعات الأزمة عززت شعور الصحفيين بالإحباط والضغط لتمرير سردية محدودة للحرب تركز على هجمات حماس فقط وتغفل سنوات من تهميش واحتلال الفلسطينيين.
الجدل حول فيلم ترامب
الضجة الأخيرة حول فيلم ترامب الوثائقي ليست مسألة نزاهة صحفية بقدر ما هي صراع على السلطة حيث يسعى البعض لتأديب هيئة عامة لا تزال تخضع للجمهور وليس لملكية خاصة. الهيئة تُعاقب على أخطاء تحرير بسيطة بينما تفلت من مسؤوليتها الكبرى تجاه تغطية غزة. كل فضيحة إعلامية تصبح بمثابة قربان لإرضاء الصحف والمراقبين السياسيين في حين تبقى القضية الجوهرية دون معالجة.
الخيارات أمام BBC
الهيئة اليوم أمام مفترق طرق: أحد المسارات يؤدي إلى الرقابة الذاتية والاعتذارات الشكلية، فيما الآخر يتطلب الالتزام بمهمتها الأصلية في خدمة الجمهور وتقديم تقارير تعترف بالفلسطينيين كبشر لهم حقوق وتاريخ ووكالة، لا كضحايا سلبيين أو مشكلات سياسية.
يمكن القول إن تحرير فيلم ترامب كان مجرد حادث صغير مقارنة بسرديات طويلة ومتشوهة عن غزة وهو ما يتطلب من BBC مراجعة شاملة لطريقة تغطيتها والاعتراف بأن الخطأ ليس في الفيلم فقط، بل في الطريقة المستمرة التي تُسرد بها قصة شعب كامل.
هذا التحليل يوضح أن الأزمة الحقيقية في BBC ليست أخطاء التحرير بل ضعف المصداقية المؤسسية والقدرة على مقاومة الضغوط السياسية والإعلامية لضمان نقل الحقيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.




