آراء و مقالات

نظام التفاهة: حين يتحدث الرويبضة

تعبيرية (revueliberte)

في حديث صحيح مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصدق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة”. وعندما سُئل عن معنى “الرويبضة” أجاب النبي: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة“. كان هذا الحديث نبأ عن واقع نعيشه اليوم حيث يتصدر “الرويبضة” الحياة العامة وتصبح التفاهة هي السمة السائدة في كل مجال.

الرويبضة، كما جاء في الحديث: هو الشخص الذي ليس له قيمة ورغم ذلك يصر على التدخل في شؤون المجتمع والتحدث في قضاياهم العامة رغم افتقاره إلى المعرفة والقدرة على فهم هذه القضايا. هو شخص تافه لا يملك من العلم والقدرة ما يجعله مؤهلاً للحديث عن أمور عامة، ولكنه يجد نفسه في صدارة المشهد بسبب سطوته الظاهرة أو علاقاته الشخصية. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حذرًا من هؤلاء الذين يعيثون فسادًا في الفكر والرأي العام مؤكدًا أن هؤلاء سيأخذون منابر السلطة والكلام ليصبحوا صوت المجتمع.

ويأتي الكاتب الفلسفي والاجتماعي آلان دونو (Alain Deneault) في كتابه “نظام التفاهة” (La médiocratie) ليشرح واقعًا ينعكس بشكل لافت على ما ورد في الحديث النبوي. دونو الذي هو أستاذ محاضر في علم الاجتماع بجامعة “كيبك” وأستاذ فلسفة، يتناول في كتابه كيف أن النظام الاجتماعي الحديث قد أدى إلى هيمنة التافهين والجاهلين على العديد من المجالات الحياتية من السياسة إلى الإعلام والتعليم والفن. يرى دونو أن ما كان يُعتبر متوازنًا أو متوسطًا في الماضي قد أصبح اليوم مرادفًا للتفاهة حيث يسود الجهل وتزدهر التافهين.

دونو يصف هذا التحول بأنه “نظام التفاهة” حيث يتم تقليص معايير الكفاءة والقدرة لتصبح مواقع التأثير محصورة في أولئك الذين يفتقرون إلى المهارات أو المعرفة المطلوبة. هؤلاء التافهون يتسلقون المناصب الاجتماعية والسياسية ويبحثون دائمًا عن من يشاركهم ضعفهم وعجزهم مما يؤدي إلى انتشار التفاهة في المجتمع بشكل عام. وهذه الظاهرة تؤدي إلى انحسار الفكر العميق والمهارات الحقيقية بينما تنمو التفاهة وتصبح هي المعيار السائد.

اليوم، لا تجد شخصًا يدخل في حوار أو نقاش دون أن يصادف سيلاً من “المحللين” و”الخبراء” الذين يملأون الفضاء الإعلامي بالآراء السطحية والتفاهات. هؤلاء هم “الرويبضة” في العصر الحديث الذين يعبرون عن أنفسهم بصوت مرتفع في جميع المجالات، رغم أنهم ليسوا مؤهلين لتقديم حلول أو آراء متبصرة.

لكن الفكرة الأكثر إثارة للقلق هي كيف أن التفاهة لم تعد مجرد ظاهرة عابرة بل أصبحت جزءًا من النظام الذي يعيد تشكيل المجتمع. يرى دونو أن هذا النظام يعزز من وجود شبكة من الأشخاص التافهين الذين يساندون بعضهم البعض من أجل الحفاظ على مواقعهم الاجتماعية، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار التفاهة في جميع المجالات الحيوية.

وبينما يطرح الكتاب سؤالًا مهمًا حول كيفية مكافحة هذا الواقع، يذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة أن نكون واعين لما يحدث من حولنا. نحن اليوم نعيش في عصر يعج بالتفاهات حيث أصبح صدى “الرويبضة” في كل مكان، فهل سنظل صامتين أم سنبدأ في مقاومة هذه المنظومة التي تسعى لتغذية الجهل والتفاهة؟

إن التصدي لهذا الوضع يتطلب منا العودة إلى معايير الكفاءة والتفكير العميق والتمسك بالقيم التي تدعو إلى العلم والوعي لا إلى المظاهر والسطحية. فالحديث النبوي كان تحذيرًا للأجيال القادمة وهو اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.

المصدر: هسبريس والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا