
ثاقب احمد
تتواصل الحرب الإسرائيلية على غزة في واحدة من أكثر مراحلها دموية ووحشية وسط غياب شبه تام لأي مساءلة دولية أو تغطية إعلامية عادلة.
لكن اللافت والمثير للفزع في آنٍ، أن الاستهداف المتكرر والمنهجي للأطفال لم يعد استثناءً بل تحول إلى سمة رئيسية في هذه الحرب التي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 17 ألف طفل بمعدل يقترب من 30 طفلا يوميا – أي طفل كل 45 دقيقة.
ليست هذه الأرقام مجرد مؤشرات على مأساة إنسانية بل أدلة دامغة على وجود سياسة ممنهجة تستهدف جيلا بأكمله في محاولة لقطع شريان المستقبل الفلسطيني. أطفال قُصفوا في المدارس والمستشفيات، في طوابير الخبز وتحت الخيام وحتى داخل أرحام أمهاتهم. وبينما تنتشر صور أجسادهم الممزقة على مواقع التواصل، تختفي أخبارهم من الإعلام الغربي الذي لطالما تباكى على حقوق الإنسان عندما لا يكون الفلسطيني ضحية.
منظمات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها اليونيسف، وصفت غزة بأنها “مقبرة للأطفال” فيما حذر مفوض الأونروا فيليبو لازاريني من “مخطط مكيافيلي للقتل”. ورغم هذه التحذيرات، يستمر الدعم السياسي والعسكري الغربي لإسرائيل ما يعكس حجم التواطؤ مع هذه الجرائم.
قصة يوسف الزق، الطفل الذي وُلد في سجون الاحتلال عام 2008 واستشهد تحت القصف في يوليو 2025 تختصر المسار الكامل للطفولة في غزة: من ولادة مقيدة في الزنازين إلى سنوات من الحصار والعدوان وصولا إلى استشهاد جماعي داخل المنزل مع أفراد العائلة.
يوسف، الذي قضى أولى سنوات حياته في الأسر، أصبح في نظر عائلته “رمزا لهزيمة الاحتلال” وهو ما جعلهم يعتقدون أنه استُهدف عمدا لا سيما وأن إسرائيل لديها تاريخ في تصفية الأسرى المحررين، بحسب تقرير نشره موقع “MEE” البريطاني.
ما يعزز هذا الاعتقاد هو الخطاب السياسي والديني الإسرائيلي الذي أضفى شرعية مفتوحة على قتل الأطفال. فقد استند رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نصوص توراتية لتبرير القتل فيما وصف وزراء في حكومته الأطفال بأنهم “إرهابيون منذ الولادة”.
أما وسائل الإعلام الإسرائيلية، فتسير على نفس الخط بتجريد الأطفال الفلسطينيين من إنسانيتهم وتصويرهم كتهديد أمني دائم.
الواقع أن الطفل الفلسطيني في نظر المؤسسة الإسرائيلية ليس مجرد ضحية محتملة بل خطر ديموغرافي وسياسي. وجوده نفسه يُعد تهديدا لمشروع استيطاني يقوم على فكرة الإقصاء والإحلال. لذلك فإن استهداف الأطفال هو استهداف للمستقبل ومحاولة لقطع الطريق أمام أي جيل قادر على حمل الذاكرة الوطنية والمقاومة.
ما يجري في غزة ليس معزولا عن سياقات استعمارية مشابهة عرفها التاريخ. فكما فعلت بريطانيا في كينيا أثناء ثورة “ماو ماو” وفرنسا في الجزائر خلال مقاومتها لجبهة التحرير، تلجأ إسرائيل اليوم إلى سياسات العقاب الجماعي عبر تدمير البنية الاجتماعية وخلق بيئة من الرعب والفوضى وهدم كل مقومات إعادة النهوض.
لكن ما لا تدركه هذه المشاريع الاستعمارية أن قتل الأطفال لا يقتل الفكرة. فالطفل الفلسطيني، رغم الحصار والجوع والخوف، يظل حاملا للذاكرة وللقضية ولحلم العودة. وفي مجتمع مثل غزة، حيث نسبة التعليم من الأعلى في العالم العربي، يتحول الكتاب والدفتر إلى رموز مقاومة لا تقل خطرا – في نظر المحتل – عن الصواريخ.
استهداف الأطفال في غزة ليس خطأ عارضا بل هو سياسة ممنهجة لتفكيك المجتمع الفلسطيني وتدمير بنيته النفسية والجسدية. إنه رهان على أن جيلا لا يُولد، لن يقاوم. وأن وطنا بلا أطفال لن يعود.
لكن ما تثبته التجربة التاريخية دائما، هو أن الذاكرة لا تموت بالقصف. وأن الكرامة، مهما طُمرت تحت الركام، تبقى حية في قلوب من نجوا… ومن سيولدون لاحقا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.