
محمد دين جوهر
في قلب التحولات الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرنين الأخيرين، برز نموذجان لتجديد الواقع الإسلامي، يختلفان في المنهج والوسيلة وإن التقيا في الهدف. الأول يتمثل في المفكر والمصلح الهندي سرسيد أحمد خان والثاني في الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك. كلاهما قاد مشروعًا تحديثيا لكن الفرق بينهما يكشف عن رؤيتين متباعدتين في فهم النهضة وصناعة التغيير.
سرسيد انطلق من لحظة هزيمة ثقيلة أعقبت فشل ثورة 1857 ضد الاستعمار البريطاني. غير أنه لم يغرق في الحزن ولا انكفأ على الذات بل قرأ الواقع بعين العقل وقرّر أن النهوض لا يكون إلا من بوابة التعليم والمعرفة. أسس مؤسسات تعليمية رائدة دعا إلى إحياء العقل والاجتهاد وسعى إلى التوفيق بين روح الإسلام ومتطلبات العصر. لم يرَ في الحداثة خصما بل فرصة للتجديد من الداخل دون التفريط بالهوية.
في المقابل، جاء مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة بعد انتصار عسكري على قوات الاحتلال لكنه لم يختر طريق التعليم أو بناء الوعي بل فرض مشروعه التحديثي من أعلى عبر سلطة الدولة وأدوات القسر. استلهم النموذج العلماني الفرنسي الصارم (Jacobin Laïcité) وأقصى الدين من المجال العام وقطع الصلة مع الإرث العثماني معيدا تشكيل الهوية التركية على أسس غربية علمانية صارمة.
وبعد مضي نحو قرنين على تجربة سرسيد وقرن على تجربة أتاتورك، يبدو الفرق في النتائج جليا.
مشروع سرسيد لا يزال حاضرا في مؤسساته التعليمية وفي وعي مسلمي الهند وباكستان، بينما إرث أتاتورك يتراجع وتستعيد تركيا شيئا فشيئا حضورها الإسلامي سواء في السياسات أو في المشاعر الجمعية.
الفرق الجوهري يكمن في أن التغيير القائم على المعرفة أعمق أثرا وأكثر بقاء، بينما التغيير المفروض بالقوة، وإن بدا سريعا وفعّالا، غالبًا ما يكون هشا وعرضة للتآكل مع الزمن. فالعلم يصنع تحولا داخليا في بنية المجتمع، أما السلطة فتفرض قشرة من التغيير لا تلبث أن تتصدع.
مع ذلك، ثمة ملاحظة لا يمكن إغفالها: كلا المشروعين، رغم اختلافهما، كانا يدوران في فلك النموذج الغربي يستوردان منه المناهج ويقلدان أساليبه. وهو ما يعكس أزمة أعمق في العقل المسلم الحديث الذي لم ينجح حتى اليوم في إنتاج نموذج حداثي مستقل يستلهم من تراثه ويواكب العصر في آنٍ واحد.
نتيجة لهذا القصور، بقيت القيم الإسلامية حبيسة الخطب والمواعظ تُرفع كشعارات ولا تُفعّل في الحياة اليومية أو تُترجم إلى منظومة معرفية متكاملة. ومع غياب هذا التفعيل، تفقد القيم أثرها وتتحول إلى رموز جوفاء لا تلامس الواقع.
اليوم، يواجه العالم الإسلامي أزمة متعددة المستويات: هيمنة سياسية تُفرغ الحكم من مضمونها وفساد علمي يُفرغ المعرفة من رسالتها، في سباق متسارع نحو الانحدار لم يبلغ منتهاه بعد.
ورغم هذا الواقع المأزوم، تظل بارقة الأمل قائمة في أن تستعيد الأمة قدرتها على الجمع بين العلم والقيم لبناء مشروع حضاري أصيل يعبر عن هويتها الحقيقية لا عن صورة مستعارة من الآخر.
المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب أحمد، والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.