
حميد دباشي
في حين يعترف العالم بالإبادات الجماعية الكبرى في التاريخ – كإبادة الأرمن والهولوكوست – ويتعامل مع إنكارها كجريمة يُعاقب عليها القانون في بعض البلدان ما زال إنكار الإبادة الجماعية الجارية بحق الفلسطينيين ولا سيما في قطاع غزة، يُمارَس على نطاق واسع وبحماية مباشرة من حكومات كبرى ومؤسسات إعلامية مؤثرة. هذا الإنكار، إذا تُرِك بلا مساءلة، لا يمثل فقط طمسا للحقيقة بل تواطؤا صريحا في استمرار الجريمة.
تشير التقديرات الأخيرة إلى أن أعداد القتلى الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر 2023 قد تجاوزت كل التصورات. فقد ذكرت مجلة لانسيت الطبية في يوليو 2024 أن عدد الضحايا قد يصل إلى 186,000 وهو رقم يفوق كثيرا الحصيلة الرسمية ويُعدّ تقديرا “محافظا”. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام صادمة فإن المأساة الأكبر تكمن في تجاهل هذا الواقع أو التقليل من فظاعته أو الأسوأ من ذلك: إنكاره.
تقرير المقررة الأممية الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي بعنوان تشريح إبادة جماعية، قدم ما وصفه قانونيون وخبراء بأنه أدلة دامغة على ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة بحق الفلسطينيين. كما رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بدعم من أكثر من 12 دولة.
وقد أجمع سبعة من أبرز باحثي الإبادة الجماعية، وفقًا لصحيفة NRC الهولندية، على أن سلوك إسرائيل في غزة ينطبق تماما على التعريف القانوني للجريمة.
رغم هذا الإجماع الأكاديمي والحقوقي، تواصل وسائل الإعلام الغربية الكبرى – لا سيما نيويورك تايمز – استخدام استراتيجيات خطابية تحاول موازنة الحقيقة بالافتراء. فحين تنشر اتهامات مثل تقرير العفو الدولية ضد إسرائيل، تسارع بإرفاقها بتصريحات رسمية إسرائيلية تنفيها وتصفها بـ”الكاذبة” مما يخلق التباسا أخلاقيا ومهنيا غير مبرر.
الولايات المتحدة وألمانيا، من جهتهما، لا تكتفيان بتبرير هذه الجرائم بل تدعمانها دبلوماسيا وتسليحيا، وفي الوقت نفسه تعاقبان من يجرؤ على مجرد التشكيك في روايات مرتبطة بالهولوكوست أو غيره من أحداث الماضي. هذه الازدواجية تفضح طبيعة الانحياز الأخلاقي والسياسي الذي يمكّن إسرائيل من الإفلات من العقاب.
إن إنكار الإبادة الجماعية لا يمثل مجرد موقف سياسي أو رأيا شخصيا بل هو جريمة متكاملة الأركان تساهم في استمرار المأساة وتحمي مرتكبيها. تماما كما يُعاقب القانون في فرنسا وألمانيا والنمسا من ينكر الهولوكوست، يجب أن يُحاسب كل من ينكر الإبادة الجارية في غزة سواء كان فردا أو مؤسسة إعلامية أو مسؤولا حكوميا.
يجب أن تشمل المساءلة القانونية والإعلامية كافة أشكال الإنكار أو التبرير أو التهوين من حجم الكارثة وأن يُشهر بالمنكرين في ساحات الإعلام والرأي العام تماما كما يُعامل من ينكر جرائم النازية.
يتعين على المؤرخين والأكاديميين والصحفيين إطلاق مشروع توثيقي عالمي يوثق هذه الإبادة بالتفصيل من خلال شهادات وصور ووثائق وأفلام، لتكوين أرشيف رقمي دائم للجرائم. يجب أيضا تسليط الضوء على تواطؤ الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة وألمانيا، في تسليح إسرائيل وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لها.
يُقترح كذلك إعلان يوم 15 مايو من كل عام – ذكرى النكبة – يوما عالميا لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية الفلسطينية، على غرار يوم ذكرى الهولوكوست وأن تُنظّم فعاليات دولية للتذكير بالكارثة ورفض تكرارها.
القضية الفلسطينية ليست فقط معركة على الأرض بل معركة على الذاكرة والتأريخ والعدالة. إن إنكار الإبادة الفلسطينية لا يُخدم إلا أولئك الذين يسعون إلى شرعنة الاحتلال والعنف الممنهج.
وفي مواجهة ذلك، يجب بناء تحالف إنساني عالمي يربط بين ضحايا الإبادة في التاريخ – الأرمن واليهود والفلسطينيين – ويحول الذاكرة إلى سلاح مقاومة ضد أي تطهير عرقي أو عدوان على كرامة الإنسان.
تجريم إنكار الإبادة في غزة ليس فقط استحقاقا أخلاقيا بل ضرورة قانونية وإنسانية، إن أردنا أن نمنع تكرار مثل هذه الجرائم وأن نحفظ للعدالة معناها.
االمقال باللغة الإنجليزية نشره موقع “MEE” وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.