
في خضم المشهد الجيوسياسي المتشابك بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط، يظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره فاعلا محوريا يسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي، لا من خلال أدوات تقليدية فحسب، بل عبر استدعاء التاريخ وتوظيف الرمزيات الثقافية والدينية ضمن مشروع استراتيجي متعدد الأوجه يمزج بين القومية التركية والدين والمصالح الاقتصادية والعلاقات التحالفية غير التقليدية – وعلى رأسها العلاقة العميقة والقديمة بين أنقرة وتل أبيب.
هذا المشروع الذي يبدو لأول وهلة وكأنه نهضة إسلامية جديدة، لا يعدو أن يكون محاولة ذكية لإعادة إنتاج النفوذ التركي تحت غطاء الوحدة الإسلامية بينما تحركه اعتبارات جيوسياسية ومصالح نخب سياسية وأمنية واقتصادية.
لم يكن المشروع الأردوغاني وليد اللحظة. فالرئيس التركي، منذ بدايات حكمه، أجاد توظيف الخطاب الديني لكسب تعاطف الشعوب المسلمة متكئا على رمزية الدولة العثمانية دون الالتزام الحقيقي بقيمها الروحية أو التشاركية. ولتتبع خيوط هذا المشروع، لا بد من العودة إلى أصول الهوية التركية ذاتها.
الأتراك في أصلهم قبائل بدوية قدمت من عمق آسيا الوسطى: منغوليا وتركمانستان وكازاخستان وسنكيانغ الصينية. وتوزعت هذه القبائل إلى فرعين رئيسيين: الأوغوز والقبجاق، حيث اتجه الأوغوز غربا وأسّسوا الدولة السلجوقية ثم الدولة العثمانية. ومع صعود العثمانيين، توسعت الإمبراطورية في الغرب والجنوب لكنها لم تُعر اهتماما يُذكر لجذورها الشرقية.
اليوم، بعد قرون من التوسع والنسيان، يعيد أردوغان إحياء تلك الروابط التاريخية في محاولة لبناء تكتل سياسي قومي تحت مسمى “منظمة الدول التركية” يضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان. هذه الدول مجتمعة تمثل كيانا ضخما يمتد على مساحة تقترب من 5 ملايين كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانه أكثر من 160 مليون نسمة.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، سعت تركيا إلى التقارب مع دول آسيا الوسطى ذات الجذور التركية إلا أن محاولاتها في التسعينيات كانت شكلية ومحدودة التأثير.
أما مع صعود أردوغان، فقد بدأ التركيز الجاد على بناء روابط سياسية وثقافية واقتصادية بدءا بتأسيس “المجلس التركي” عام 2009 بمشاركة ثلاث دول. تتابعت اللقاءات الدبلوماسية وتطورت الفكرة تدريجيا إلى “منظمة الدول التركية” عام 2021.
لكن اللافت أن الحماسة الفعلية لهذا المشروع بقيت محصورة في تركيا وأذربيجان، في حين بدت الدول الأخرى أكثر حذرا خاصة تلك التي تخضع لنفوذ روسيا والصين.
لكن التحول الأهم لم يكن في الوثائق أو التصريحات بل في الاستراتيجية الإعلامية والثقافية التي اتبعها النظام التركي لإعادة تشكيل الوعي الشعبي تجاه “الهوية العثمانية“.
فبدلا من الاعتماد على المناهج التعليمية أو الخطاب الرسمي فقط، استُخدمت الأعمال الدرامية كوسيلة ترويجية فعالة؛ فظهرت مسلسلات “قيامة أرطغرل” و”المؤسس عثمان” وغيرها، لتُعيد إنتاج التاريخ العثماني بصيغة درامية جاذبة تستهدف الجمهور المسلم العاطفي، خصوصا في العالم العربي والآسيوي.
في الوطن العربي، أبدت بعض الحكومات حساسية واضحة تجاه المشروع التركي الرمزي وحظرت بث تلك المسلسلات لما تحمله من رسائل رمزية توسعية. أما في باكستان، فقد تلقّى المشروع حفاوة غير مسبوقة. إذ دعم رئيس الوزراء الأسبق عمران خان عرض مسلسل “أرطغرل” على التلفزيون الرسمي وامتدحه علنا أكثر من مرة.
ولم يكن هذا مجرد إعجاب شخصي بل تعبيرا عن ميل سياسي وعاطفي تجاه تركيا يعززه الانتماء القبلي لخان (قبيلة “بركي” ذات الأصل التركي) وهو ما جعل الحفاوة بالمشروع العثماني الجديد جزءا من الدعاية السياسية الداخلية.
بلغ الترويج ذروته مع اقتراب عام 2023 حيث نشطت منصات إعلامية وشخصيات دينية في التبشير بنهاية “معاهدة لوزان” وعودة الخلافة العثمانية دون أي سند قانوني أو تاريخي.
ومع مرور الموعد المنتظر دون أي تغيّر فعلي، تراجعت هذه النغمة إعلاميا لكنها تركت أثرا نفسيا لدى جمهور كبير بات يرى في أردوغان زعيما إسلاميا عالميا.
والحقيقة أن أردوغان لم يغيّر جوهر الدولة التركية الحديثة بل أعاد توجيه سياساتها الخارجية والداخلية بما يخدم رؤية قومية جديدة ترتدي عباءة الإسلام وتتغذى على الإحباطات الجماهيرية من الواقع العربي والإسلامي.
في الوقت الذي يرفع فيه أردوغان شعارات الدفاع عن فلسطين والقدس، تكشف الوقائع عن علاقات استراتيجية متينة بين أنقرة وتل أبيب.
فمنذ تأسيس الجمهورية التركية، استمرت الصلات اليهودية ـ العثمانية القديمة بأشكال جديدة توجتها شراكات عسكرية واستخباراتية مع إسرائيل بلغت ذروتها في التسعينيات ولا تزال قائمة حتى اللحظة.
إقرأ أيضا: تركيا: استراتيجية التوازن بين القوى الكبرى وصناعة مسارات السلام
على امتداد أربعة قرون، شكّل التحالف التركي اليهودي أحد أركان السلطة داخل الدولة العثمانية. فمنذ أن أنقذ السلطان بايزيد الثاني اليهود المطرودين من الأندلس، بات لهؤلاء حضور مؤثر في بلاط السلاطين حتى صار رضاهم أحد مفاتيح الاستقرار في الدولة. بلغت هذه الشراكة ذروتها في عهد السلطان الأخير حيث تولّى أكثر من سبعة آلاف يهودي مهام داخل القطاع المالي للدولة.
وبينما لا يتسع المجال لعرض كل التفاصيل، تكفي الإشارة إلى بعض الشخصيات اليهودية البارزة في الإدارة العثمانية لتبيان مدى التغلغل والنفوذ. نذكر منهم: جوزيف ناسي مستشار الشؤون الخارجية وصاحب لقب “دوق ناكسوس” وسلومون أشكنازي الطبيب الملكي ومسؤول الملف الأوروبي وموسى بن باروخ الذي كان بمثابة وزير مالية ومموّل رسمي للخزانة، إضافة إلى دونا غراسيا ناسي المصرفية السلطانية وموزيس حمون الطبيب العائلي للسلطان وديفيد بن يحيى أستاذ القانون وإيليا بنيامين مؤسس أول مطبعة عبرية في إسطنبول عام 1493، وغيرهم كثيرون.
حادثة “أسطول مرمرة” عام 2010 التي راح ضحيتها تسعة نشطاء أتراك على يد الجيش الإسرائيلي استُثمرت إعلاميا لتصوير القطيعة بين الطرفين لكنها لم تنعكس فعليا على العلاقات الاقتصادية أو الأمنية التي عادت إلى طبيعتها في وقت قصير.
بل تؤكد التقارير الحديثة أن التنسيق في مجال الطاقة والتقنيات الدفاعية بين أنقرة وتل أبيب يشهد ازدهارا مستمرا. وفي واحدة من التطورات المثيرة للجدل، ترددت أنباء عن دعم لوجستي غير مباشر من تركيا للهجوم الجوي الإسرائيلي الأخير على إيران عبر الأراضي الأذرية.
وهو ما أكده تحليل مسارات الطيران التي أظهرت إلقاء خزانات وقود في بحر قزوين. كما أن المسيّرات التي استهدفت شاحنات في إيران ثم قاعدة جوية روسية لاحقا، تبيّن أن عناصر من المافيا الأذربيجانية كانوا متورطين فيها مما دفع موسكو للرد بضرب منشآت نفطية في أوكرانيا تملكها شخصيات مقربة من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.
في هذا السياق، لعبت أذربيجان دور الحليف النموذجي لتركيا ليس فقط بحكم القرابة اللغوية والعرقية ولكن أيضا بسبب علاقتها العميقة بإسرائيل. ويبدو أن هذه المعادلة الثلاثية – أنقرة، باكو، تل أبيب – تشكّل حجر الزاوية في استراتيجية أردوغان الجديدة. فبينما تحتفظ تركيا بخطابها المؤيد لفلسطين، تستمر التبادلات العسكرية والأمنية مع إسرائيل مرورا بالنفط الأذري الذي يُنقل عبر تركيا ووصولا إلى التنسيق الاستخباراتي المشترك.
المشهد يزداد تعقيدا مع دخول عناصر غير رسمية على خط التحالفات. فزعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، (الرئيس السوري المؤقت احمد الشرع) زار مؤخرا أذربيجان في تحرك قد يشير إلى دور مستقبلي محتمل للتنظيم خارج سوريا وربما في سياق مواجهة إيران ضمن تفاهم تركي ـ إسرائيلي غير معلن.
الأنباء المتداولة في الأوساط الدبلوماسية عن إمكانية إعادة توظيف “ورقة الجولاني” في لبنان تعكس قناعة بعض الأطراف بأن الجماعات الجهادية يمكن أن تكون أدوات وظيفية في لعبة المحاور كما كانت في سوريا تحت غطاء ديني وشعارات أممية.
ما يُرسم حاليا على الأرض يتجاوز مجرد تعاون أمني. هناك ممرات جوية وعسكرية وشبكات لوجستية مشتركة وتفاهمات تتعلق بتقاسم النفوذ في سوريا. تشير معطيات استخبارية إلى أن إسرائيل تسعى، عبر بوابة باكو، إلى تأسيس موطئ قدم استراتيجي تجاه إيران وقد تستخدم الجولاني وجماعته ضمن موجة هجومية جديدة برية وجوية ضد طهران.
وفي المقابل، يحتفظ أردوغان بهذه الورقة للمساومة مع روسيا والصين خصوصا أن الأخيرتين أصبحتا عقبة أمام مشروعه التركي في آسيا الوسطى بعد أن بدأتا بمناورات عسكرية استباقية في كازاخستان وأوزبكستان كإشارة إلى أنهما لن تسمحا بأي تمدد نفوذي تركي غير منسق، حيث تتحرك أنقرة مدفوعة بطموحات جيواستراتيجية وتجد في إسرائيل شريكا موثوقا في الطاقة والأمن.
المشهد المعقد الذي يقوده أردوغان يتجاوز الصور الرومانسية عن “عودة الخلافة” و”نهضة الأمة” ليكشف عن تحالفات نفعية تنسج بخيوط دقيقة بين القومية التركية والمصالح الإسرائيلية والفراغ العربي. يستخدم فيها التاريخ ديكورا والدين شعارا والشعوب وقودا. وبينما تشتعل المنطقة بصراعات متشابكة تجد أنقرة في الإسلام وسيلة، لا غاية، وفي “الحنين للخلافة” فرصة سياسية لتوسيع النفوذ، لا لاستعادة العدل أو الوحدة.
والأخطر من ذلك، أن هذا المشروع يجد من يروّج له بحسن نية، فيما هو في جوهره تكرار لتجربة قديمة قاد فيها السلطان، بدعم شيخ الإسلام، تحالفات لا تمُتّ بصلة لمصالح الأمة بل لمصالح القصر وحده.
المقال باللغة الأردية كتبه المحلل العسكري الباكستاني رعايت الله فاروقي وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.