
بعد أكثر من ثلاثة عقود من الصراع الدموي على إقليم ناغورنو قره باغ، نجحت الولايات المتحدة بوساطة مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في جمع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان على طاولة واحدة في البيت الأبيض. النتيجة كانت توقيع اتفاق سلام شامل يتضمن وقف إطلاق نار دائم ومشاريع اقتصادية كبرى وخطوات سياسية من شأنها إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في جنوب القوقاز.
بدأت ملامح النزاع في أواخر ثمانينيات القرن الماضي حين كانت كل من أذربيجان وأرمينيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي. تفكك المنظومة السوفيتية عام 1991 أطلق شرارة حرب استمرت ست سنوات انتهت عام 1994 بسيطرة أرمينيا على معظم أراضي قره باغ وهو الإقليم الذي يقطنه غالبية من الأرمن لكنّه يقع داخل الحدود المعترف بها دوليا لأذربيجان. خلال هذه الحرب قُتل أكثر من 36 ألف شخص وتعمقت العداوة بين الشعبين.
وفي عام 2020، اندلعت جولة قتال جديدة استعادت فيها أذربيجان أجزاء مهمة من الإقليم قبل أن تتمكن في عام 2023 مستغلة انشغال موسكو بحرب أوكرانيا من فرض سيطرة كاملة على قره باغ ما تسبب في نزوح نحو 100 ألف من السكان الأرمن.
لطالما كانت روسيا الراعي التقليدي للتسويات بين باكو ويريفان من خلال “مجموعة مينسك” التي تضم أيضا الولايات المتحدة وفرنسا. لكن موقف موسكو المتراخي خلال أحداث 2023 أثار استياء أرمينيا التي بدأت في توثيق علاقاتها مع الغرب بينما رأت أذربيجان أن الظرف الجيوسياسي بات مواتيا لتثبيت مكاسبها على الأرض.
الاتفاق الموقع في واشنطن لا يقتصر على وقف إطلاق النار بل يتضمن خطوات أوسع، أبرزها الدعوة إلى حل مجموعة مينسك ما يعني فعليا تقليص دور روسيا في الوساطة الإقليمية. كما يشمل إطلاق مشروع اقتصادي ضخم تحت مسمى “طريق ترامب للسلام والازدهار” وهو ممر يربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان عبر شبكة سكك حديدية وخطوط أنابيب النفط والغاز وكابلات الألياف البصرية ويمر عبر الأراضي الأرمنية لمسافة 32 كيلومترا.
الممر الاستراتيجي المعروف بـ”زنغيزور” يبقى العقبة الأبرز أمام تنفيذ المشروع إذ ترفض باكو أن يكون خاضعا لسيطرة أرمينيا فيما تعتبر يريفان أن أي إشراف لطرف ثالث على الممر يشكل مساسا بسيادتها. الوساطة الأمريكية فتحت الباب أمام صيغة وسطية لكن تفاصيل التنفيذ تبقى مرهونة بالثقة المتبادلة وهي عملة نادرة بين الطرفين.
يرى المراقبون أن نجاح واشنطن في إتمام هذا الاتفاق يشكل تراجعا لنفوذ موسكو في جنوب القوقاز ويبعث برسالة قوية إلى بكين وطهران اللتين تتابعان التطورات بقلق خشية تغيّر موازين القوى في منطقة استراتيجية تربط أوروبا بآسيا الوسطى.
كما يفتح الاتفاق الباب أمام تحولات اقتصادية مهمة إذ يمكن للممرات التجارية والطاقة الجديدة أن تعزز مكانة أذربيجان كمحور للطاقة والنقل فيما تمنح أرمينيا فرصة للخروج من عزلتها الاقتصادية إذا أحسنت استثمار السلام.
ورغم الأجواء الإيجابية التي رافقت توقيع الاتفاق إلا أن خبراء النزاعات يحذرون من أن الطريق نحو سلام دائم مليء بالتحديات. فالذاكرة المثقلة بالدماء والتنافس على الممرات الاستراتيجية والاصطفافات الإقليمية المتغيرة جميعها عوامل قد تحدد ما إذا كان هذا الاتفاق مجرد هدنة مؤقتة أم خطوة أولى نحو استقرار طويل الأمد في القوقاز.
Web Desk