
محمد محمد علي
قبل ٩٥٤ عاماَ، وبالتحديد في السادس والعشرين من أغسطس لعام ١٠٧١م، دارت أحداث معركة هي يوم من أيام الله الخالدة بالقرب من ملاذكرد – في محافظة موش – حيث التقت جحافل التحالف الصليبي بقيادة الإمبراطور رومان الرابع ديوجين وجيش السلاجقة بقيادة السلطان محمد آلپ أرسلان.
كان الإمبراطور على اطلاعِِ من خلال مخابراته بتحركات السلاجقة وتوسعاتهم وأهدافهم في مناطق التخوم والتماس شرق وجنوب الإمبراطورية البيزنطية في كل من شمال الشام والعراق وأرمينية وأذربيجان وجورجيا. وحين تمكن السلطان ألب أرسلان من تأكيد السيادة السلجوقية على حلب والعودة إلى فارس وتفرق الجيش للراحة قرر ديوجين انتهاز الفرصة للقضاء على هذا العدو الجديد الذي يهدد بيزاطة بقوة هذه المرة.
جمع رومان جيشا جرارا من شتى أنحاء أوروبا، جاؤوا في تجمل كثير وزي عظيم وقصد بلاد الإسلام فوصل إلى ملاذكرد من أعمال خلاط. فبلغ السلطان آلپ أرسلان الخبر وهو بأذربيجان عائد من حلب وسمع ما فيه الإمبراطور من كثرة الجموع فلم يتمكن من جمع الجند لبعدها وقرب العدو.
أسرع آلپ أرسلان لمواجهة رومان عند منطقة ملاذكرد التي استولى عليها الإمبراطور البيزنطي. بيد أن رومان كان يريد اختراق ثغور المسلمين من ناحية الجزيرة الفراتية شمال العراق والتوغل في إقليم فارس لضرب السلاجقة في عمق دولتهم بل واحتلالها. وقد فطن آلپ أرسلان لخطته وكان في ذلك الوقت قد بلغ أذربيجان في جند قليل.
وتشير بعض المصادر إلى أن آلپ أرسلان انزعج عندما رأى ضخامة الجيش البيزنطي وما كان منه إلا أن أرسل إلى رومان يطلب المهادنة. وكان هدفه من ذلك كسب الوقت ريثما تصله الإمدادات العسكرية والعدد الكافي من المقاتلين. غير أن الإمبراطور أصر على مواصلة الزحف رغبة منه في عدم ضياع الوقت والفرصة، وقال:
“إني قد أنفقت الأموال الكثيرة وجمعتُ العساكر الكثيرة للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها فكيف أتركها! هيهات، لا هدنة إلا بالري ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فعل آلپ أرسلان ببلاد الروم”.
أيقن السلطان أن انتظاره للمدد القادم من العراق أو الري سيستغرق وقتا طويلا وسيتسبب حتما في احتلال البلاد الإسلامية إن تقاعس عن الدفاع. ومن ثم اتخذ قرارا شجاعا بمواجهة القوة البيزنطية التي تقدر ب٢٠٠ ألف بجيشه الذي بلغ ما بين ١٥ – ٣٠ ألفا.
هذا ما نقله الأصفهاني مؤرخ السلاجقة بقوله:
“رأى السلطان أنه إن تمهل لحشد الجموع ذهب الوقت وعظم البلاء وثقلت أعباء العباد، فركب في نخبته وتوجه في عصبته وقال: أنا أحتسب عند الله وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي وإن نُصرت فما أسعدني وأنا أمسى ويومي خير من أمسي”.
وذهب السلطان إلى شيخه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يسأله المشورة في هذا المصاب الجلل فحثه على الجهاد والكفاح لدين الله بما أوتي من قوة وقال له: “اجعل المعركة يوم الجمعة حتى يجتمع المسلمون لنا والخطباء بالدعاء في الصلاة”.

ينقل المؤرخ عز الدين بن الأثير مشهدا مؤثرا من معركة ملاذكرد قائلا:
“لما كان تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه ودعا ودعوا معه وهنا يقف الشيخ العظيم وسط الجيش يقول لهم: هذا يوم من أيام الله لا مكان فيه للفخر أو الغرور وليس لدين الله وحرمة دم المسلمين ومقدساتهم في كل الدنيا سوى سواعدكم وإيمانكم. والتفت السلطان لجنده وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهى. وألقى القوس والسهام وأخذ السيف والدبوس وعقد ذنب فرسه بيده وفعل عسكره مثله ولبس البياض استعدادا للموت وقال: إن قُتلت فهذا كفني”.
ثم امتطى جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة:
“إن هزمت فإني لا أرجع أبدا فإن ساحة الحرب تغدو قبري”. وزحف إلى الروم وزحفوا إليه فلما قاربهم ترجَّل وعفّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه.
وضع السلطان خطة عبقرية وخطيرة كانت الأمل الوحيد لتحقيق النصر وهي أن يقسم القوات إلى قسمين: قسم يخترق قلب الجيش بأقصى سرعة ويصل للإمبراطور والآخر يهاجم الباقي من الجيش.
وحين ألقى السلاجقة بوابل من السهام تقدم الجيش البيزنطي لمساندة خيالته المهزومة فتظاهر السلاجقة بالتقهقر والانسحاب. فطاردهم الجيش البيزنطي وبذلك وقع فريسة كمائن السلاجقة الذين قاموا بدورهم بتعقب مؤخرة الجيش البيزنطي وتكبيده خسائر فادحة.
وأمام هذه الهزائم المتلاحقة قرر الإمبراطور النزول بثقله في معركة فاصلة فتقدم بصحبة المشاة آملا الانقضاض على السلاجقة دفعة واحدة، بيد أنهم تفرقوا وعادوا بغتة لينقضّوا بقوة قاصمة على الجناح الأيمن للجيش البيزنطي. وهكذا أحاطوا بالإمبراطور البيزنطي وعزلوا جناحه الأيسر وأصبح قلب الجيش البيزنطي بقيادة رومان معزولا ومحروما من أي دعم عسكري خارجي. وبدأ السلاجقة في إبادة البيزنطيين وانتهى المطاف بأسر الإمبراطور والعديد من كبار القادة.

ونقل بعض المؤرخين الحوار الذي دار بين الإمبراطور الأسير وبين السلطان:
“فلما أُحضر رومان ضربه السلطان آلپ أرسلان ثلاثة مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان: ما عزمتَ ما تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. قال له: فما تظن أني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبا عنك. فقال: ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم. واستقر الأمر على ذلك وأنزله في خيمة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز”.
وهكذا كانت ملاذكرد نقطة فاصلة في تاريخ العصور الوسيطة حيث ترتب على هذه المعركة بداية الحملات الصليبية التي استمرت لمدة قرنين أو يزيد على العالم الإسلامي شرقا في بلاد الشام وغربا في الأندلس. لكن في المقابل كانت هذه المعركة وما ترتب عليها من إنشاء دولة جديدة في الأناضول هي سلاجقة الروم.
بدأ الأتراك يتوافدون عشائر وجماعات إلى بلاد الأناضول وتتركت هذه البلدان وزادت نسبتهم وتوسعوا في شن الغارات على المناطق البيزنطية ونشر الإسلام فيها. ووصل الترك بقيادة مليك سليمان إلى جزر بحر إيجه وسواحل البحر الأسود وأرسى قواعد دولة دام حكمها أكثر من قرنين. وأجمعت المصادر على نجاح سليمان السلجوقي في تحقيق المهام السياسية والعسكرية التي أرست قواعد دولة إسلامية في آسيا الصغرى.
تشبه ملاذكرد إلى حد كبير في النتائج معركة اليرموك التي استحوذ بعدها المسلمون على كامل بلاد الشام وانتزعوها من يد البيزنطيين في عصر الخلافة الراشدة على يد الصحابي الجليل والقائد العسكري الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه. فقد مهدت ملاذكرد الطريق أمام جيوش السلاجقة للتوغل في آسيا الصغرى واقتطاع هذه الأقاليم الأناضولية المهمة من ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية لأول مرة منذ قيامها.