آراء و مقالاتتعليمثقافة و فن

التعليم العام بين بناء الإنسان وإنتاج العامل

تعبيرية (infogain)

عبدالرؤوف حسين

التعليم العام (Public Education) لم يعد نشاطًا يهدف إلى بناء الإنسان المتكامل بل أصبح نظامًا إداريًا وتقنيًا لإنتاج الفرد الصالح للاستهلاك والعمل. الفلسفة التربوية الحديثة حولت التعليم إلى منظومة ضبط وإدارة تقوم على الكفاءة والأداء والقياس. لم يعد الهدف تشكيل الذات الأخلاقية أو الارتقاء بالوعي بل تحقيق مؤشرات الإنتاجية والمعايير المؤسسية.

في علم النفس التربوي، ظهرت تصنيفات مثل Bloom’s Taxonomy وSOLO Taxonomy (بلوم و سولو) التي سعت إلى تنظيم المعرفة الإنسانية ضمن مستويات إدراكية محددة. هذه التصنيفات لم تكتف بتصنيف الأهداف التعليمية بل أعادت تعريف الإنسان ذاته بوصفه كائنًا معرفيًا يمكن برمجته وتطويره عبر أساليب التدريب المعيارية. لكنها تجاهلت أن الإنسان ليس مجرد جهاز إدراكي، بل كيان روحي وأخلاقي يحتاج إلى معنى لا إلى إدارة.

الذاكرة التي كانت يومًا جوهر الوعي والهوية، أصبحت في المنظومة الحديثة عبئًا معرفيًا. الاتجاه الجديد يرفض الذاكرة ويرفع شعار التفكير النقدي (Critical Thinking) لكنه في الواقع أنتج عقلًا بلا جذور. عندما تُفقد الذاكرة تُفقد الهوية ويظهر ما يسميه علماء النفس بـCognitive Dissonance أي التناقض بين المعرفة والسلوك وهو ما نراه اليوم في أجيال تعرف أكثر لكنها تفهم أقل.

الإنسان كائن ذو خمسة أبعاد داخلية: الذاكرة، النفس، الإدراك، الخيال والروح. التعليم الحديث لا يتعامل إلا مع البعدين النفسي والإدراكي لأنهما قابلان للقياس. أما الخيال والروح اللذان يمثلان منبع المعنى والإيمان، فهما خارج المنهج. بهذا، يتحول الإنسان إلى كائن مادي محكوم بالمنفعة لا بالقيمة.

في الفلسفة التربوية، تُطرح أسئلة كبرى: كيف نعرف؟ وكيف نصبح؟. المعرفة حركة أفقية بين العقل والواقع، بينما الصيرورة حركة عمودية بين الباطن والوجود. التعليم العام دمج هذين البعدين في عملية تقنية واحدة فألغى المعنى الأخلاقي للإنسان. الصيرورة الأخلاقية (Becoming) لا يمكن أن تتحقق من دون حرية داخلية.

في التراث الإسلامي، كانت مجاهدة النفس هي طريق التزكية، أي العمل على تربية النفس وترسيخ القيم. أما العمل في المنظومة الحديثة فصار التزامًا قسريًا يخضع لمنطق السوق (Market Logic). المجاهدة تهذب الروح بينما العمل الحديث يستنزفها، فالأول طوعي والثاني قهري.

حتى التصوف، الذي كان مجالًا للتحقق الروحي، تأثر بالبنية التعليمية الحديثة. صار التصوف ممارسة شكلية تخضع لمنطق التحصيل (Acquisitive Logic) أي السعي وراء النتائج والمكاسب لا وراء التجربة والتحقق. الإنسان الذي أُعيد تشكيل وعيه عبر التعليم العام، أصبح يبحث عن السكون في تصوفٍ يفقد جوهره لأنه يخضع للشروط نفسها التي أنشأت أزمته.

التعليم العام اليوم يُعيد إنتاج الإنسان وفق منطق المجتمع المنزع للتملك (Acquisitive Society) الذي وصفه آر. إتش. توني (R.H. Tawney). في هذا المجتمع، القيمة تُقاس بما يُمتلك لا بما يُزكّى. المعرفة وسيلة للسيطرة لا للتحرر. التعليم يصبح أداة للضبط الاجتماعي بدلا من أن يكون وسيلة للتحرر الأخلاقي.

هذا التحول جعل التعليم الحديث ينتج عقلًا تحليليًا (Analytical Mind) لكنه فقير في البصيرة. الإنسان الحديث يملك أدوات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) والتقنية التعليمية لكنه فقد القدرة على طرح السؤال القيمي: لماذا نتعلم؟ من أجل من؟

إصلاح التعليم لا يعني تغيير المناهج فقط بل إعادة بناء تصوره للإنسان. يجب أن يعود التعليم إلى جذره التربوي حيث العلاقة بين المعرفة والروح، بين الذاكرة والإبداع وبين الفرد والمجتمع. التعليم ليس عملية إنتاج موارد بشرية (Human Resources) بل عملية تنشئة إنسانية (Human Building).

إذا بقي التعليم رهين الكفاءة والإنتاج، سيتحول الإنسان إلى ترس في آلة السوق. أما إذا أعيد ربطه بالمعنى فسيعود إلى وظيفته الأصلية: بناء الإنسان الذي يعرف ويكون ويعيش بضمير. لأن التعليم بلا روح، مهما بلغ من دقة وذكاء، يظل مشروعًا لصناعة العجز الأخلاقي.

الأفكار التي ناقشها هذا المقال تنبع من قراءة لكتابات المفكر الباكستاني محمد دین جوهر والآراء الواردة فيه لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى