
رعايت الله فاروقي
في زمن تتسارع فيه وتيرة العولمة وتتصادم فيه الثقافات، باتت الثقافة المحلية في بلادنا تواجه خطرًا مزدوجًا. فمن جهة، يقود بعض المثقفين الليبراليين حملة تدعو إلى التخلي عن الموروث الثقافي واعتناق النموذج الغربي باعتباره الطريق الوحيد نحو التقدّم. ومن الجهة الأخرى، يواجه المجتمع تيارًا دينيًا متشددًا يحاول فرض رؤيته الضيقة التي ترى أن تعزيز الدين لا يتحقق إلا بإقصاء الثقافة بل وتحريمها في بعض الأحيان.
هذا الصراع الخطير يُضعف المنظومة الثقافية التي بدونها لا تكتمل هوية الشعوب. فالثقافة بتقاليدها ولغتها ورموزها ليست كماليات بل هي مكوّن أساسي من مكوّنات الشخصية الجماعية، وإن تهاوت سقط معها جزء كبير من كيان الأمة.
لقد أصبح من المعتاد أن نُبرر بعض السلوكيات الغريبة عن بيئتنا بعبارة: “الغرب يفعل ذلك” وكأن مجرد محاكاة الغرب تمنحنا صك التمدّن. حتى يتم ترويج مظاهر غير منطقية تحت مظلة “التطوّر“! غير أن المجتمعات الغربية، رغم انخراطها في العولمة، لا تزال متمسكة بهوياتها القومية خصوصًا فيما يتعلق باللغة.
اللغة هي قلب الثقافة النابض، وإذا ماتت تلاشت معها الملامح الثقافية. ولعل مثال مدينة ملتان – التي كانت يومًا ما معقلًا للبشتون – يوضّح كيف أن استبدال اللغة الأم بلغة السوق أدى إلى انقطاع الأجيال عن أصولها. فالثقافة لا تُورّث بالدم فقط بل باللسان والعرف أيضًا.
العالم كله، من الصين إلى ألمانيا، يقدّم خطاباته الرسمية بلغته الأم إلا بعض قادتنا في العالم العربي والإسلامي الذين يرون في استخدام لغة أجنبية نوعًا من الرقيّ الحضاري. بينما الحقيقة أن الأمم لا ترتقي بالتبعية بل بالثقة في الذات والاعتزاز بالجذور.
الحملة التغريبية ليست جديدة، فقد بدأت منذ عهد علي كره (Aligarh) وبعض النخب التي زرعت في الأجيال شعورًا بالدونية تجاه ثقافتها، حتى ظن البعض أن التطور لا يأتي إلا بارتداء بدلة أوروبية وتحدث بلغة أجنبية ونسوا أن العلم هو مفتاح النهضة. ومع الأسف، أنتج هذا النهج نخبة مثقفة تفتخر بإتقان الإنجليزية أكثر من اهتمامها بإنتاج المعرفة وتعتبر التغريب وسيلة لا مفر منها.
وعلى الجانب الآخر، كان من المفترض أن يكون الخطاب الديني حاميًا للهوية الثقافية إلا أن بعضه ساهم في ضربها. فاستمرار بعض الفتاوى التي وُلدت في سياق مقاومة الاحتلال أصبح يُستعمل الآن خارج سياقه التاريخي مما يُشوّه الفهم الحقيقي للدين الذي لم يفرض نمطًا واحدًا للحياة.
نحن اليوم أمام معركة بقاء للهوية الثقافية. لا يمكننا الانجرار وراء تيار يخلط بين الثقافة والدين ولا خلف تيار آخر يخلط بين التقدم والتغريب. الإسلام ترك مساحة واسعة للعادات والتقاليد ما دامت لا تخالف الشرع واعتبر التنوع الثقافي من سنن الحياة.
الحل ليس في الرفض المطلق أو الانبهار الأعمى، بل في بناء وعي ثقافي متوازن يُقدّر الأصالة دون أن يُعادي المعاصرة ويُؤمن أن التقدّم لا يعني فقدان الذات بل تعزيزها.
المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد، والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.