ستيفن كولينسون

في مشهد لم يكن مفاجئًا، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض مبتسمًا وهو يستمع إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يطرح واحدة من أكثر الأفكار إثارةً للجدل في تاريخ محاولات السلام الأمريكية في الشرق الأوسط.
اقترح ترامب خلال حديثه للصحفيين أن يتم نقل نحو مليوني فلسطيني من غزة التي دمرتها الحرب إلى أماكن أخرى بحيث تتولى الولايات المتحدة السيطرة على القطاع وتعيد إعماره وتحوّله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط“.
وقال ترامب: “يجب بناء مساكن حديثة وعالية الجودة، مدينة جميلة، حيث يمكنهم العيش بكرامة وأمان لأن غزة تضمن لهم الموت فقط”.
طرح ترامب لهذا السيناريو الجيوسياسي لم يكن مجرد فكرة عابرة، بل قدّم طوق نجاة سياسياً لنتنياهو الذي يواجه ضغوطًا كبيرة من اليمين المتطرف في حكومته. فتصريحات ترامب عززت مكانة نتنياهو كجسر أساسي بين إسرائيل والإدارة الأمريكية مما يمنحه فرصة لتقديم نفسه على أنه الرجل الذي يستطيع تحقيق مكاسب استراتيجية كبرى لإسرائيل عبر علاقاته القوية مع البيت الأبيض.
حتى إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي السابق والمعروف بمواقفه المتطرفة رحّب بالخطة قائلاً عبر منصة X: “دونالد يبدو أن هذه بداية صداقة جميلة”.
لم يكن ترامب أول رئيس أمريكي يطرح أفكارًا غير تقليدية حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لكنه بالتأكيد الأكثر صراحةً. فقد جاءت اقتراحاته بمثابة صدمة غير مسبوقة حيث بدت وكأنها تأييد صريح لسياسة التهجير القسري وهو ما يتناقض مع عقود من السياسة الأمريكية الرسمية والقانون الدولي والمبادئ الإنسانية.
ليس هذا فحسب، بل ذهب ترامب إلى أبعد من ذلك إذ تخيل خطة استثمارية شاملة لغزة تقوم فيها الولايات المتحدة بتولي “ملكية” القطاع وتعمل على إزالة الأنقاض وتطهيره من الأسلحة، ثم إعادة بنائه وفق نموذج اقتصادي متكامل يوفر فرص العمل والمساكن للسكان.
وقال ترامب: “الولايات المتحدة ستتولى مسؤولية غزة وسنقوم بتفكيك الأسلحة غير المنفجرة وتسوية الأرض وإنشاء مشروع تنموي ضخم يوفر فرصًا غير محدودة للسكان”.
لكن هذه الرؤية تتجاهل حقيقة أساسية: إرادة الفلسطينيين أنفسهم.
فبالنسبة لغالبية سكان غزة، ليست القضية قضية مساكن حديثة أو إعادة إعمار فاخرة بل قضية وطن وهوية. عندما سأل ترامب خلال اجتماع المكتب البيضاوي: “لماذا قد يرغبون في العودة؟ المكان أصبح جحيمًا”. رد عليه أحد الصحفيين قائلًا: “لأنها وطنهم سيدي. لماذا قد يرحلون؟”.
يبدو أن ترامب لم يفكر في أن ملايين الفلسطينيين، الذين لجأوا إلى دول أخرى منذ نكبة 1948 لا يزالون متمسكين بحق العودة رغم مرور أكثر من سبعة عقود. وبالتالي، من الصعب تصور أن سكان غزة سيقبلون بمغادرة أرضهم مقابل وعود بمشاريع سكنية جديدة في مكان آخر.
إلى جانب الجوانب الأخلاقية والسياسية هناك عقبات إقليمية تجعل هذا المقترح غير واقعي على الإطلاق.
الدول العربية التي يُفترض أن تقدم الدعم المالي والأراضي لتنفيذ الخطة تعارضها بشدة. فالأردن الذي يستضيف بالفعل أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين يخشى أن يؤدي تدفق جديد للاجئين إلى زعزعة استقراره. أما مصر فتخشى من أن يؤدي النزوح الجماعي إلى دخول عناصر متشددة قد تهدد أمنها القومي.
أما السعودية التي كانت حجر الزاوية في خطط ترامب السابقة لتوسيع اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية فقد أكدت مرارًا أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو شرط أساسي لأي اتفاق سلام مستقبلي.
يبقى السؤال الأهم: هل ترامب جاد بشأن هذه الخطة أم أنها مجرد ورقة ضغط في مفاوضات مستقبلية؟
يعتمد ترامب كرجل أعمال سابق أسلوب طرح أفكار صادمة كتكتيك تفاوضي حيث يضع مقترحات متطرفة كخطوة أولى ليبدو أي تراجع لاحق وكأنه “تنازل” لصالح الطرف الآخر.
لكن هذه الاستراتيجية قد لا تنجح هذه المرة إذ إن تصريحاته أثارت قلقًا واسعًا حتى بين حلفائه. فقد علق السيناتور الديمقراطي كريس كونز قائلًا: “أنا عاجز عن الكلام. هذا جنون”.
ورغم أن ترامب يدّعي أنه يسعى لتحسين حياة الفلسطينيين فإن اقتراحه يتجاهل هويتهم وحقوقهم الأساسية. فقد قال: “الناس في غزة يعيشون في جحيم وسنوفر لهم حياة أفضل وأكثر استقرارًا”.
لكن الحقيقة، التي أثبتها التاريخ أن السلام لا يتحقق بإعادة توطين الشعوب قسرًا بل عبر الاعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم.
لا شك أن ترامب بطرحه لهذه الخطة نجح في لفت الأنظار مجددًا إلى شخصيته المثيرة للجدل. لكن كما هو الحال مع العديد من اقتراحاته السابقة يبدو أن فكرته لتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” ليست سوى سراب سياسي يصطدم بواقع تاريخي معقد ورفض شعبي وإقليمي واسع.
وكما قال نتنياهو لترامب: “أنت تقول أشياء يرفض الآخرون قولها. وبعد أن يندهش الناس يبدأون في التفكير ويقولون: ‘تعلم ماذا؟ إنه على حق'”.
لكن الحقيقة أن الجملة الأولى صحيحة بلا شك، أما الثانية فتبقى موضع شك كبير.
المصدر: CNN