آراء و مقالات

عندما تتحول الفلسفة إلى سلاح ضد الدين: قراءة في ظاهرة فكرية تهدد وعي الشباب

تعبيرية (ED)

حسن محمود

شهدت الساحة الفكرية الأردية في السنوات الأخيرة بروز تيار يستخدم الفلسفة كسلاح لمهاجمة الدين متبنّيا خطابا مباشرا حادّا ومشحونا بالمواقف النفسية أكثر من كونه بحثا علميا موضوعيا.
ما يجعل الظاهرة لافتة هو أنها ربما المرة الأولى في تاريخنا الثقافي التي يُعلن فيها الهجوم على الدين بهذه الصراحة وبهذه اللغة مع توظيف أدوات فلسفية في صياغة خطاب موجه للشباب.

ووفق ما كتبه المفكر الباكستاني “محمد دين جوهر“، هذا الخطاب لا يكتفي بطرح أسئلة على النصوص الدينية أو التراث بل يضع الإسلام ورموزه الفكرية، وعلى رأسهم محمد إقبال، في قلب الاستهداف. ولأن وسيلته الأساسية هي اللغة الأردية فقد استطاع الوصول إلى فئات واسعة من القراء والمتابعين خاصة من الأجيال الجديدة في وقت يعيش فيه الواقع الثقافي تحولات عميقة لم يعد الدين فيه عند البعض تاجا على الرأس بل قيدا يطلبون الفكاك منه.

المنهج المعرفي الذي ينطلق منه هذا الخطاب قائم على ما يُعرف بالمعرفة الخطابية (Discursive knowledge) أي الجدل العقلي القائم على المفاهيم والافتراضات لكنه يغفل جانبا جوهريا في التجربة الإنسانية: الحالة الوجودية للإنسان (Human condition). هذه الحالة ليست مسألة ذهنية مجردة بل هي نقطة الانطلاق التي تحدد موقف الإنسان من ذاته ومن العالم.

هنا يظهر الخلط الكبير، إذ تُختزل القضايا الإيمانية الكبرى مثل طبيعة الذات الإلهية إلى مسائل تجريدية يتعامل معها وكأن الإله موضوع بحث أكاديمي مما يُفقد النقاش عمقه الروحي ويحوّله إلى سجال سطحي. الأخطر أن هذا الطرح يوحي بأن العقل وحده، في صورته الجدلية، كاف للإجابة عن أسئلة المعنى والغاية متجاهلا أن العقل نفسه يحتاج إلى أرضية وجودية ينهض عليها قبل أن يبدأ وظيفته المعرفية.

الفلسفة — كما يشهد تاريخها — لم تبلغ غايتها النهائية يوما، فهي تعترف بوجود حق مطلق لكنها تعجز عن الإحاطة به فتكتفي بالحقيقة النسبية وهو تناقض داخلي مزمن. العقل يستطيع فحص كل الادعاءات لكنه لا يستطيع إسقاط الحق المطلق في خانة النتائج التجريبية أو الاستنتاجات المنطقية.

في المقابل، الدين لا يقدّم الحقيقة بوصفها نتاجا عقليا مشروطا بل بوصفها قيمة عليا (Axiological) تحدد ما “ينبغي أن يكون” وليس فقط ما “هو كائن”. هنا تكمن الفجوة الكبرى بين المعرفة الخطابية التي تبقى حبيسة الواقع المادي (Isness) وبين الهداية الإلهية التي تلبي حاجة الإنسان القيمية والوجودية (Ought).

الخطاب الذي يهاجم الدين يصفه أحيانا بالعفن لكنه يتغافل عن أن العدمية (Nihilism) — التي هي جوهر كثير من الفلسفات الحديثة — تمثل الخطر الأعمق على المعنى الإنساني. فالعدمية ليست مجرد موقف فكري بل حالة فقدان للمعنى تدفع الإنسان إلى نسيان ذاته وهي النتيجة الحتمية للمعرفة المقطوعة عن البعد الوجودي والقيمي.

كثير من هذا الخطاب يعتمد على روايات تاريخية مغلوطة خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفكر الإسلامي بالفلسفة اليونانية. والحقيقة أن الحضارة الإسلامية لم تكن مجرد ناقل أو مقلّد بل هي التي تفوقت على الفكر اليوناني في ميادين المنطق والميتافيزيقا وأنتجت رؤية كونية متكاملة تجاوزت التصورات الإغريقية. والتحدي القادم للفكر الغربي لن يأتي إلا من داخل هذا التراث إذا ما أُعيد توظيفه بوعي معاصر.

إن مواجهة هذا التيار لا تكون بتجاهله أو الاكتفاء بالردود الانفعالية بل تتطلب خطابا فكريا راسخا يجمع بين العمق الفلسفي والرؤية الإيمانية يواجه الإلحاد والعدمية بنفس الحدة التي يواجه بها المذاهب الغربية الكبرى ويعيد للعقل المسلم وعيه بخصوصيته الوجودية ويقدّم للشباب بدائل فكرية رصينة تعيد المعنى إلى مركز التجربة الإنسانية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا