
رعايت الله فاروقي
لماذا تسعى إسرائيل لخوض حرب كبيرة؟ لفهم هذا السؤال، من المهم أولاً إدراك مفهوم أحد أهم استراتيجيات الحروب الكبرى. الفكرة السائدة حول الحرب هي أن أحد أهدافها يكون التدمير الكامل لأراضي العدو وبنيته التحتية، لكن هذا ليس الهدف الوحيد للحرب. ففي ظل الظروف المختلفة، تتبنى الدول استراتيجيات متنوعة تعتمد على طبيعة الموقف والغايات المتوخاة.
الحرب تشبه الفن، وتتعدد فيها الاستراتيجيات. ومن أخطر الحروب حرب الاستنزاف، حيث يكون الهدف إلحاق خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات بالعدو، وتدمير دفاعاته تمامًا قبل السيطرة على الأرض. تُستخدم هذه الاستراتيجية بشكل مكثف في أوكرانيا، وتبرز بشكل خاص عند دخول القوات الروسية إلى المدن الكبرى.
عندما تصل القوات الروسية إلى إحدى المدن، لا تسارع في الاستيلاء عليها، بل تطوقها من ثلاث جهات مع ترك خط الإمداد مفتوحًا. وهذا يسمح لأوكرانيا بإرسال الإمدادات، مما يمكن الروس من استهداف قواتها. ورغم أن هذه الاستراتيجية تؤدي إلى خسائر كبيرة في المعدات العسكرية، فإن الهدف الأساسي هو استنزاف قوات العدو.
حققت روسيا نجاحًا كبيرًا في تطبيق هذه الاستراتيجية على نطاق واسع في باخموت وعبدييفكا وكورسك. ومن المهم أن نفهم أن هذه الاستراتيجية يمكن تنفيذها فقط ضد عدو يصر على البقاء في المنطقة. ففي الحروب، عندما يدرك القائد أن الخصم غير مستعد للانسحاب، فإنه يوقف التقدم ويتحول إلى حرب استنزاف.
منذ البداية، خطط المقاتلون في غزة لخوض حرب استنزاف ضد إسرائيل، مدركين أن القوات الإسرائيلية لن تغادر بمجرد دخولها القطاع. يعتمد سكان غزة على حرب العصابات، ومنحهم التدخل الإسرائيلي فرصة لتحويل هذه الحرب إلى استنزاف طويل الأمد. عند مقارنة هذا الصراع بحروب العصابات في العراق وأفغانستان، نلاحظ أن تلك الحروب لم تتحول إلى حرب استنزاف، حيث انسحبت القوات سريعًا إلى قواعدها العسكرية. كما أن استخدام القناصة في تلك الحروب كان محدودًا جدًا. من المهم أن نفهم أن الخسائر لا تقاس فقط بعدد القتلى، فالفكرة الشائعة بهذا الشأن مغلوطة. الخسارة الكبرى للعدو تكمن في الجنود الذين يصابون بجروح خطيرة تعيقهم عن المشاركة في المعارك المستقبلية. هؤلاء الجرحى يصبحون عبئًا على الجيوش بسبب تكاليف العلاج المستمر، والأطراف الصناعية، والدعم النفسي، كما تترك الحرب آثارًا عميقة في نفوسهم. وعندما يُسأل أحدهم: “كيف فقدت ذراعك؟” سيكون جوابه: “فقدتها في غزة.”
فإن أبرز أخبار حرب غزة هو أن عدد الجنود الإسرائيليين الذين تعرضوا لإعاقة دائمة بسبب حرب الاستنزاف تجاوز 70,000 جندي. هذا الرقم الكبير يمثل هدية غزة لإسرائيل الصغيرة. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط، فهؤلاء الجنود المعاقين يشكلون جزءاً من جيش يعتمد بشكل كبير على قوات الاحتياط. لقد كانت الغطرسة مكلفة، حيث كان هناك اعتقاد بأن إسرائيل كانت دائماً في مأمن. أصبح جنود الاحتياط يمثلون جزءاً كبيراً من الجيش، وهم مجندون يعودون إلى حياتهم المدنية بعد فترة التدريب العسكري ولا يتم استدعاؤهم إلا في حالات الطوارئ للدفاع عن البلاد. يتم استدعاؤهم مرة واحدة في السنة لتدريب محدود، وخلال باقي العام يكونون أحراراً في متابعة حياتهم المهنية أو الشخصية. ومن الواضح أن هذا النظام يهدف إلى تقليل ميزانية الدفاع.
هذا الوضع يكون فعالًا عندما يخوض جنود الاحتياط حربًا جنبا إلى جنب جيشهم النظامي، ولكن عندما يشكل جنود الاحتياط الأغلبية، فإن حماية البلاد تعتمد على العناية الإلهية، حيث أن الدفاع يكون في أيدي هؤلاء الجنود غير المتفرغين. من هنا، يمكن التخيل أن الجيش الإسرائيلي كان هدفا سهلا لحرب استنزاف. فقد تكبدت إسرائيل في غزة خسائر كبيرة، ليس فقط في الأرواح بل في المعدات أيضًا، مما أدى إلى تدهور الوضع بشكل دفع جنرالات سابقين في البنتاغون للتصريح بأنه إذا استمرت الحرب في غزة بنفس الوتيرة، فلن تتمكن إسرائيل من الصمود لمدة عام آخر، وبعد ذلك سيكون وجودها مهددًا. كما لن تكون قادرة على الحفاظ على جيشها. وإذا انخرطت إسرائيل في نزاع مع لبنان بمفردها، فإن هذه الفترة قد تكون أقصر.
في بداية الصراع في غزة، كان الرئيس الأمريكي جو بايدن أكثر صرامة من إسرائيل، حيث عرقل الجهود الرامية لوقف إطلاق النار، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرار في مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص. ولكن بعد مرور ستة أشهر، أصبح بايدن من أبرز المؤيدين لوقف إطلاق النار، بعدما أدرك أن إسرائيل على وشك الانهيار. والولايات المتحدة تفهم جيدًا أن السبيل الوحيد لتجنب المزيد من الدمار هو التوصل لوقف إطلاق النار وسحب القوات من غزة. ومع مرور كل يوم، يصبح مستقبل إسرائيل أكثر تهديدًا.
لكن بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائه المتطرفين، فإن قبول هذه الحقيقة سيكون صعبًا لأسبابهم الخاصة. فتهديد الحكم المؤبد يلوح فوق رأس نتنياهو، بينما مستقبل حلفائه السياسي يتعرض للخطر. ومع انتهاء الحرب، سيبدأ الإسرائيليون في تقييم المكاسب والخسائر، ومن الواضح أن التضحيات لن تأتي بنتائج إيجابية. ليس هذا فحسب، بل سيظل كل صهيوني يشعر بالقلق من سؤال محبط: هل ستتمكن إسرائيل من الحفاظ على الاستقرار؟ وكيف يمكنها البقاء أمام حركة مسلحة تعاديها منذ 75 عامًا وتعرضت لهزائم كبيرة؟ وقد يأتي اليوم الذي يتمكن فيه المسؤولون في غزة من اجتياز خط الدفاع والدخول في مواجهة مباشرة داخل حدود إسرائيل.
فبالتالي تحاول الإدارة الإسرائيلية الحالية بجدية تحويل هذه الحرب إلى صراع بين إيران وإسرائيل، مما قد يدفع الولايات المتحدة وحلفاءها إلى التورط في هذا النزاع، ويتيح لإسرائيل فرصة الاحتفال بالنصر. ومع ذلك، فإن هذه الحرب المحتملة تمثل كابوسًا للولايات المتحدة وحلفائها. سنناقش هذا الموضوع في الجزء التالي من المقال… (تابع)
تم نقله من الأردية بواسطة: UrKish News (المصدر)
الآراء المعبر عنها في هذه المقالة تعود للكاتب ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع UrKish News.