آراء و مقالات

تحليل في جدل السلطة والمعرفة وعجز الخطاب الديني عن فهم الدولة

تعبيرية (UrKish)

محمد دين جوهر

في ظل التحولات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرنين الأخيرين، أصبحت مفاهيم مثل الدولة الحديثة والنظام الرأسمالي والتقدم العلمي جزءا لا يتجزأ من الواقع اليومي للإنسان المعاصر.
لكن حين ننظر إلى واقع العالم الإسلامي، يبرز سؤال مؤلم وملحّ: لماذا لم ننجح بعد في تكوين فهم علمي رصين لهذه المفاهيم؟ ولماذا لا تزال أدواتنا الفكرية، سواء كانت دينية أو أكاديمية، قاصرة عن إدراك جوهر الحداثة ومكوناتها الأساسية؟

في هذا السياق، يبدو أن المسألة تتجاوز مجرد فجوة معرفية لتكشف عن أزمة بنيوية في طريقة طرحنا للأسئلة. فما يُسمّى “الفكر الإسلامي المعاصر” لم يتعامل مع مفاهيم الحداثة – كالدولة والسلطة والاقتصاد والتعليم – من منطلق التحليل العلمي أو المقاربة المقارنة بل ظلّ حبيس ثنائية ماضوية: “الحلال والحرام” أو “الإسلام والكفر” متغافلا عن السؤال الأهم: ما هي الدولة الحديثة أصلا؟

عندما بدأ مشروع التحديث في شبه القارة الهندية، لم تكن أولى القضايا المطروحة مرتبطة بالاقتصاد أو التعليم بل بالجهاد.
وهذا الطرح يكشف عن تصور ما قبل حداثي للسلطة والسيادة قائم على الفقه التقليدي دون أي محاولة لفهم بنية الدولة القومية الحديثة التي جاءت بها أوروبا. وبذلك، لم يتأسس لدينا خطاب فكري قادر على معالجة التغيرات البنيوية التي أحدثها الاستعمار لا على مستوى الدولة ولا على مستوى المجتمع.

الأزمة تتعمق حين ننظر إلى ردود “الفكر الإسلامي” على قضايا الحداثة. فبدلا من إنتاج أدوات جديدة للفهم، استمر الخطاب في إعادة تدوير مواقف تقليدية مستخدما لغة دينية مجازية لا تسمن ولا تغني من جوع.
بل إن بعض الاتجاهات عمدت إلى مواءمة النصوص الشرعية مع مفاهيم الحداثة دون أي وعي نقدي أو معرفي بأصول هذه المفاهيم ومساراتها التاريخية.

لا يمكن لأي مشروع نقدي أن يتناول الدولة الحديثة دون أن يستند إلى إطار مقارن. والمقارنة هنا يجب أن تتم بين ثلاث مرجعيات: الدولة الحديثة كما نشأت في أوروبا والدولة الإسلامية التقليدية كما ظهرت مثلا في عهد أورنجزيب، والدولة “المثالية” كما يتصورها الفقه السياسي الإسلامي.
لكن ما يحدث فعليا هو إنكار إمكانية المقارنة من الأساس مما يؤدي إلى نفي الواقع وتكريس أوهام خطابية فارغة من أي مضمون علمي.

هذه العقلية الإقصائية لا تكتفي برفض الحداثة بل ترفض أيضا أدوات دراستها وتغلق الباب أمام أي حوار بين التراث والواقع. وهكذا، نجد أنفسنا أمام تيارين كلاهما عاجزان: الأول تقليدي يرفض الحداثة دون أن يفهمها والثاني ديني حداثي يحاول مواءمة الإسلام مع الدولة الحديثة دون أي تفكيك لنموذجها.

رغم أن الاستعمار كان لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي الحديث، فإن تناولنا له ظل عاطفيا وشعاريا. لم ينتج عن هذه التجربة أي تحليل نظري جاد لا في العلوم السياسية ولا في الاقتصاد، بل مجرد تنديدات وخطابات وجدانية. وحتى اليوم، لم نتمكن من تجاوز الصدمة ولا من تحليل نتائجها بما يليق بحدث غيّر شكل العالم الإسلامي كله.

ربما تكمن الأزمة الأكبر في غياب الأدوات العلمية المناسبة لفهم الحداثة. لم نطور نظريات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تنبع من واقعنا بل ظلّ خطابنا يدور في فلك الأيديولوجيا والمواعظ الأخلاقية. فنحن نتحدث كثيرا عن “فساد النظام البنكي” أو “خطورة الإعلام الغربي” لكننا نجهل تماما البنية التقنية والتنظيمية لهذه المؤسسات وبالتالي نظل عاجزين عن تقديم بدائل واقعية.

حتى التعليم، وهو أداة التغيير الأولى لا يزال عندنا تقليديا في مضمونه، حداثيا في شكله فقط. وما يُقدم للطلبة لا يُنتج وعيا نقديا بل يُكرّس الانفصام بين “الدين” و”العلم” وبين “التراث” و”الواقع”. وهنا يغيب الفهم العميق لماهية المؤسسات الحديثة ويحلّ محله الانطباع العاطفي والتعليق الأخلاقي.

الواقع أن الدولة الحديثة ليست امتدادا لأي شكل من أشكال السلطة السابقة. إنها بنية مغايرة كليا قامت على أسس فكرية وعملية جديدة، مثل السيادة القومية والبيروقراطية والعقد الاجتماعي. ومن أراد أن يتحدث باسم الإسلام في هذا السياق، عليه أولا أن يفهم هذه البنية لا أن يُسقط عليها مقولات فقهية أو نصوصا تقليدية أُنتجت في سياقات مختلفة جذريا.

ربما يكون السبيل إلى هذا الفهم هو إعادة النظر في أدواتنا التحليلية والسعي إلى إنتاج خطاب معرفي جديد، لا يتجاهل الدين ولا يقدسه على حساب الواقع. فالدين، كما كان دائما، قادر على التفاعل مع التحولات الكبرى لكن بشرط أن يُقرأ بعقل حيّ ووعي نقدي وأدوات تناسب الزمان والمكان.

نحن لا نعاني فقط من “تخلف” عن الحداثة بل من عجز عن فهمها. هذا العجز ليس في الدين بل في العقول التي قرأت الدين والواقع بلغة واحدة فخسرت الاثنين. والمسؤولية اليوم تقع على المفكرين لا على العوام.
فإما أن نعيد صياغة أسئلتنا أو نبقى أسرى مفاهيم لم تعد تصلح حتى لو صدقنا نوايانا.

االمقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة ثاقب احمد والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا