
شكلت هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، المعروفة بـ “طوفان الأقصى”، نقطة انعطاف محورية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. إذ أسفرت عن مقتل نحو 1200 شخص في إسرائيل واحتجاز مئات رهائن وردّت إسرائيل بشنّ أكبر حملة عسكرية على قطاع غزة منذ نحو عشرين عاما ما أسفر، حسب وزارة الصحة في غزة، عن استشهاد أكثر من 60 ألف فلسطيني، بينهم نحو 20 ألف طفل، ونزوح نحو 2.5 مليون شخص — أي ما يقارب كامل سكان القطاع، وفقًا لما ذكرته BBC Türkçe.
في هذه الأجواء المأساوية، برزت تركيا كأحد الفاعلين الأكثر نشاطا في الساحة الإقليمية والدولية ساعية لوقف الحرب ورفعت من صوتها تجاه العدالة والدعم الفلسطيني مستخدمة أسلحة متعددة: دبلوماسية، قانونية، اقتصادية وإنسانية.
من مسار التطبيع إلى تصعيد الخطاب الرسمي
قبل أيام قليلة من هجمات 7 أكتوبر، كانت العلاقات التركية–الإسرائيلية تمرّ بمرحلة دفء نسبي، إذ التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك في إشارة رمزية إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بعد سنوات من القطيعة. مع خطط لزيارات متبادلة رفيعة المستوى.
غير أن اندلاع الحرب غيّر المعادلة كليا؛ فتبنّت أنقرة في البداية نهجا معتدلا داعية إلى الوساطة وتبادل الأسرى وتقديم المساعدات الإنسانية. إلا أن تصاعد الهجمات الإسرائيلية دفع الرئيس أردوغان إلى إعلان موقف حاد في 25 أكتوبر 2023 قائلا إن “حماس ليست منظمة إرهابية بل حركة تحرير ومجاهدين” وألغى زيارته المقررة إلى إسرائيل. هذا التصعيد في الخطاب مَثَّل نقطة التحوُّل التي أعلنت نهاية المسار التعبيري نحو التطبيع.
التحول إلى سياسة الردع الاقتصادي والدبلوماسي
وفقًا لما ذكر Yeni Şafak، انتقلت تركيا من لغة الدبلوماسية إلى سياسة الضغط الاقتصادي والقانوني. ففي 2 مايو 2024، أعلنت أنقرة تعليق جميع الواردات والصادرات مع إسرائيل حتى وقف العمليات العسكرية والسماح بدخول المساعدات إلى غزة. هذا القرار جاء بعد خطوات تمهيدية مثل فرض قيود على 54 فئة من المنتجات في أبريل 2024.
لم يكن القرار اقتصاديًا فحسب بل سياسيًا جوهريا — فقد استُخدم كمؤشر على جدية موقف أنقرة وعلى استعدادها لتقديم تكلفة ملموسة في العلاقات الثنائية.
ورغم أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد بلغ 5.4 مليار دولار صادرات تركية إلى إسرائيل و1.6 مليار دولار واردات (وفقًا لهيئة الإحصاء التركية – TÜİK) قبل الحرب، فإن أنقرة اعتبرت أن الحفاظ على الموقف الرمزي مهم لشرعيتها الداخلية والدولية.
الدبلوماسية المكثفة ومساعي الوساطة
منذ اندلاع الحرب، انتهَجَت تركيا استراتيجية دبلوماسية متعددة المسارات، قادها الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان.
نقلا عن TUDPAM أجرت القيادة التركية اتصالات مكثفة مع قادة العالم بما فيهم رؤساء دول عربية وغربية للضغط من أجل وقف إطلاق النار وضمان إيصال المساعدات إلى غزة. كما سعت تركيا للعب دور الوسيط في تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل ولتنسيق الجهود الإنسانية مع مصر وقطر لفتح قنوات إنسانية، فضلا عن مبادرات في الأمم المتحدة ومنظمات التعاون الإسلامي لرفع الصوت التركي في الساحة الدولية.
على الرغم من أن بعض المبادرات واجهت رفضًا أو تغيّب استجابة من الجانب الإسرائيلي إلا أن أنقرة لم تتراجع عن إظهار نفسها كفاعل وسيط وداعم لوقف الحرب من خلال الأمم المتحدة ومنظمات التعاون الإسلامي.
التحرك القانوني على الساحة الدولية
كما ذكرت Yeni Şafak أنه في مايو 2024، أعلنت تركيا نيتها التدخل رسميا في دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
يأتي هذا القرار كجزء من استراتيجية أنقرة القانونية لزيادة الضغط الدولي على إسرائيل وكشف الجرائم المرتكبة في غزة.
وبحسب الخبراء، فإن انضمام تركيا إلى هذه الدعوى جعلها أول دولة ذات أغلبية مسلمة تتخذ هذه الخطوة مؤكدة بذلك التزامها بالدفاع عن القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين.
المساعدات الإنسانية: جسر الصمود لأهل غزة
شكّلت المساعدات الإنسانية دعامة مركزية في دور تركيا أثناء الحرب. فقد أرسلت أنقرة 11 سفينة مساعدات إلى غزة محمّلة بالمستلزمات الطبية والغذائية واللوجستية، عبر التعاون مع منظمات تركية ودولية. وتشير وسائل إعلام تركية أن ربع حجم المساعدات الدولية الواصلة إلى غزة منسوبة إلى تركيا ما يجعلها أكبر دولة مانحة للقطاع منذ اندلاع الحرب، وفق تقديرات منسق شؤون الحكومة في المناطق (COGAT).
التصعيد البحري وموقف أنقرة من اعتراض “أسطول الحرية”
جاء في تقرير BBC Türkçe أنه في أكتوبر 2025، زادت حدة التوتر بعد أن اعترضت إسرائيل أسطول المساعدات الإنسانية المتجه إلى غزة والذي ضم ثلاثة نواب أتراك وأكثر من مئتي ناشط.
ووصفت وزارة الخارجية التركية الحادث بأنه “عمل قرصنة وانتهاك خطير للقانون الدولي” مطالبة بالإفراج الفوري عن مواطنيها. كما أدان البرلمان التركي الحادث بالإجماع، فيما أكد الرئيس أردوغان أن “الهجوم على الأسطول أظهر مجددا الوجه القاتل لإسرائيل”.
التحرك الدبلوماسي في المنظمات الدولية
كما ذكرت وكالة الأناضول، لم تقتصر مساهمة تركيا على الساحة القضائية بل امتدت إلى المنظمات الدولية. فقد نجحت أنقرة في دفع قرار داخل الاتحاد البريدي العالمي (UPU) يمنح فلسطين تمثيلا أوسع وحق رفع علمها في المقر الرئيسي والمشاركة الفاعلة في أعمال الاتحاد بالرغم من وضع فلسطين كمراقب.
يمثل هذا الإنجاز خطوة رمزية مهمة في تعزيز الحضور الدولي لفلسطين وتوسُّع الحيز الدبلوماسي لتركيا كداعم رسمي.
الجبهة المناهضة لإسرائيل وتوسيع النفوذ الإقليمي
من خلال مواقفها الدبلوماسية والقانونية والإغاثية، ساهمت تركيا في تشكيل جبهة دولية مناهضة لإسرائيل تمتد من آسيا إلى أمريكا اللاتينية.
ويرى مراقبون أن هذا التحرك يعكس استراتيجية أوسع لتركيا لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية وصوت للعالم الإسلامي في الدفاع عن القضايا العادلة.
كما يرتبط هذا الموقف بالعوامل الداخلية، حيث يحظى دعم فلسطين بشعبية واسعة داخل تركيا مما يعزز من الشرعية السياسية لحزب العدالة والتنمية الحاكم.
العلاقات التركية – الإسرائيلية بعد إعلان وقف الحرب (الوضع الراهن)
مع إعلان وقف الحرب أو تهدئة ملموسة في قطاع غزة، تبدأ مرحلة جديدة من العلاقات بين أنقرة وتل أبيب تحمل في طياتها توتّرات طويلة الأمد وفرصاً محتملة للتقدم. فيما يلي أبرز ملامح هذا الوضع:
إبقاء القناة الدبلوماسية مفتوحة، مع تحفظ شديد
رغم مرحلة القطيعة والتصعيد، لم تقطع تركيا وإسرائيل علاقاتهما الدبلوماسية بشكل كامل بل أبقت كل منهما خطوط اتصال مفتوحة لتنسيق المسائل الحساسة مثل الوضع السوري أو التنسيق العسكري في المجال الجوي. وفق المحللين، هذه القنوات تستخدم لتجنّب اشتعال النزاعات الثنائية في ساحات أخرى.
عودة تدريجية للتجارة، ولكن بطوق رقابة وشروط
مع إعلان التهدئة، يُتوقع أن تعيد تركيا فتح التبادل التجاري مع إسرائيل لكن ذلك سيكون مشروطًا بعدم تجدد العمليات العسكرية وبضوابط شفافية على السلع وربما تحت إشراف دولي أو فلسطيني لضمان عدم استخدام عائدات التجارة لدعم الحرب.
بعض التصريحات التركية التي سبقت الحظر أكّدت أن الأنشطة التجارية كانت تُعدّ ركيزة للحفاظ على قنوات الدعم لغزة وإعادة الإعمار وهو ما يعني أن أنقرة قد تفضّل استئنافها بحذر. (مصدر: تصريحات الدكتور إلكيم بوكيه أوكيار ضمن المقال المرسل)
تقييم العلاقات بناءً على خطوات ملموسة والتزام إسرائيل
وفق خبراء، عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين ستكون مشروطة بـ تغيّر في سلوك إسرائيل في غزة مثل الامتثال لقرارات محكمة العدل الدولية ووقف طويل الأمد لأعمال العنف وضمانات قانونية لحقوق المدنيين.
وبحسب رأي حيدر أوروتش، فإن “أي إصلاح في العلاقات التركية–الإسرائيلية مرهون بتغيير في إدارة أحد الطرفين أو كليهما.”
فائض من الشكوك وأزمة الثقة
ستكون العودة إلى علاقات وثيقة صعبة لأن الشكوك بين الطرفين متجذرة. فحتى إذا توقفت الحرب، فإن المسائل الجوهرية مثل مستقبل القدس، الوضع القانوني لقطاع غزة والمسائل المتعلقة باللاجئين ستظل عوائق أمام إعادة بناء ثقة استراتيجية.
الدكتورة غالّيا ليندنشتراوس أشارت إلى أن أخطاء الماضي — التي تُعتبر لدى إسرائيل بمثابة “خيانة” تركية منذ تصريح “دقيقة واحدة” عام 2009 — لن تُمحى بسهولة من الذاكرة الجماعية.
المراقبة الدولية والتدخّل القانوني مستمّر
حتى في حالة وقف الحرب، ستواصل تركيا رصد أي تجاوزات جديدة في غزة وقد تواصل دعمها للدعاوى القانونية الدولية أو التقدم بمبادرات في المنظمات الدولية. علاوة على ذلك، فأنشطة إسرائيل في سوريا أو الشرق الأوسط قد تظل نقاط توتر بين أنقرة وتل أبيب.
باختصار، فإن المرحلة التي أعقبت إعلان وقف الحرب تمثل اختبارًا للنية الحقيقية لدى الطرفين وستعتمد متانة العلاقات الجديدة على مدى التزام إسرائيل بضوابط القانون الدولي وجرأة تركيا على الموازنة بين مصلحتها الوطنية ومواقفها المبدئية.
تُظهر سياسة تركيا تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة بعد 7 أكتوبر 2023 تحولا شاملا من سياسة التطبيع إلى استراتيجية المواجهة الدبلوماسية والقانونية. فقد سعت أنقرة إلى وقف الحرب وكشف الانتهاكات الإسرائيلية من خلال المقاطعة الاقتصادية والتحرك القانوني إلى الدعم الإنساني والدبلوماسية النشطة.
ورغم محدودية النتائج الملموسة حتى الآن، فقد نجحت تركيا في إعادة إحياء الخطاب الدولي حول القضية الفلسطينية وتعزيز حضورها كفاعل إقليمي يسعى إلى العدالة والاستقرار في الشرق الأوسط.
وعند إعلان التهدئة، تبدأ مرحلة إعادة ترتيب العلاقات بين رغبة حذرة في استئناف التواصل من جانب وشروط مشروطة ومراقبة من الجانب الآخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.



