آراء و مقالات

مجتمعاتنا في زمن الشاشات: حضور كمي وغياب نوعي

تعبيرية (kolekti)

محمد دين جوهر

في زمن ليس ببعيد، كان الوصول إلى أهل العلم ضربًا من المشقة والاقتراب من الكتب الجادة حلمًا لا يتحقق إلا للقلة. أما اليوم، فقد قلبت وسائل التواصل الاجتماعي المعادلة رأسًا على عقب. أصبحت المنصات الرقمية مثل فيسبوك ويوتيوب مجالس مفتوحة نستمع فيها إلى عدد لا يُحصى من العلماء والمفكرين ونطّلع على كتبهم ونتابع نقاشاتهم بشكل مباشر وفوري. غير أن هذه السهولة بدل أن تفتح آفاقًا للمعرفة، أفرزت حالة غير مسبوقة من الفوضى والاضطراب في البيئة العلمية والفكرية الإسلامية.

الساحة الفكرية اليوم ضجيج بلا تناغم وجلبة بلا فهم. لا يستطيع اثنان من أهل العلم التحاور دون أن ينقلب الحديث إلى صدام، بل إلى تخوين وتكفير أحيانًا. وفي المقابل، فإن المتابع لحوارات المفكرين الغربيين يُلاحظ بسهولة كيف يتحاور المختلفون منهم بوعي واتزان ويُعبّرون عن اتفاقهم واختلافهم بلغة يفهمها الجميع.

المشكلة ليست في كثرة الأصوات بل في غياب المرجعيات والضوابط وضياع المقاييس. الجميع يدّعي امتلاك الحقيقة والجميع يرفع راية “العلم”، لكن لا أحد يُحدّد ما هو “العلم” أصلًا. وحتى أولئك الذين بلغوا مراتب معرفية معتبرة تجدهم في الغربة، مهمّشين، لا يُصغي إليهم أحد.

بعد تجربة طويلة في هذه الدوامة، يمكن تلخيص أهم المشكلات التي تعصف بالواقع الفكري والعلمي في العالم الإسلامي في النقاط التالية:

غياب الأمانة العلمية والإنسانية: كثير من أهل العلم فقدوا حس المسؤولية والعدل حتى صار بعضهم أسوأ من أهل السلطة في تعاملهم ومواقفهم.

الأنانية المعرفية: التواضع نادر والغرور طاغٍ، حتى باتت ذرات من العلم تُورِث صاحبها شعورًا بالتفوّق المطلق.

تأثير التيارات التكفيرية: قرنان من الفكر التكفيري شوّها الذهنية الإسلامية وأفسدا القدرة على التفكير النقدي والانفتاح.

تغييب العقل: لا مكان اليوم للعقل الإنساني أو الإسلامي في علومنا، لا من حيث التوظيف ولا من حيث المنهج.

انهيار منهجية الاستدلال: ضاعت الفروق بين العلوم وانعدمت المنهجيات فتلاشى الوعي الثقافي والتأصيلي.

تحوّل النقاشات الدينية إلى ميادين صراع: بدل أن تكون وسيلة للهداية والتزكية أصبحت سببًا للتفرقة والتنازع.

انهيار التعددية الفقهية والفكرية: التراث الإسلامي مليء بنماذج التعايش والاختلاف لكن اليوم لم يعد يُسمح إلا برأي واحد ونهج واحد.

غياب الخطاب الحضاري: لا يوجد خطاب يساعد المسلم المعاصر على فهم تراثه أو التعامل مع مفاهيم الحداثة بوعي مستقل.

فشل المؤسسات التعليمية: لا الجامعات الحديثة التي أنشأها المستعمر ولا المدارس الدينية التي تموّلها البورجوازية الجديدة، قادرة على إحداث نهضة معرفية.

انفصال العلم عن الواقع: المعرفة اليوم في عالمنا الإسلامي أكاديمية جافة، لا ترتبط بقضايا المجتمعات ولا تحاور هموم الإنسان المسلم.

فهم سطحي للحداثة وهوس بتأطير الدين فلسفيًا: لا يُفهم من الغرب إلا القشور بينما يُختزل الدين في أفكار ونظريات لا صلة لها بالحياة.

الحل في الحوار الحقيقي: لا مخرج من هذه الأزمة إلا بالحوار المباشر الذي يبدأ بتحديد القضايا الحقيقية ويستند إلى منهج واضح ويُدار ضمن شروط “العقل العام” الذي يربط العلم بالواقع.

ختامًا، نحن لا نفتقر إلى العلماء بل نفتقر إلى بيئة تحتضن العلم وتحترم الرأي وتُعلي من شأن الحوار. إن إعادة بناء هذا الفضاء لا تحتاج إلى ضجيج إضافي، بل إلى شجاعة فكرية وتواضع علمي واستعداد صادق لمغادرة خنادق الانغلاق.

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين، والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا