آراء و مقالات

غزة بين مطرقة الاستعمار الحديث وسندان المصالح العقارية

وسعت الله خان

Getty Images

يُقال إن من يملك المطرقة يرى كل مشكلة وكأنها مسمار وكذلك الحال مع تجار العقارات والمستثمرين الذين لا ينظرون إلى الأرض إلا من زاوية قيمتها الاستثمارية متجاهلين كل ما يرتبط بها من حياةٍ وتاريخٍ وإنسانية.

اليوم، غزة ليست مجرد أرضٍ تعاني من الحصار والدمار بل هي أيضًا، في عيون بعض القوى الكبرى “فرصة استثمارية“. تلك البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 41 كيلومترًا طولًا و12 كيلومترًا عرضًا أصبحت في حسابات البعض مشروعًا عقاريًا ضخمًا إذا ما تم إخلاؤها من سكانها وتحويلها إلى منتجعات سياحية ومراكز مالية وتكنولوجية تنافس “وادي السيليكون“.

في عالم المال والأعمال يسيطر منطق “الفرصة” على التفكير. من يملك الأرض يملك المستقبل ومن يسيطر على العقار يتحكم بالاقتصاد. لا عجب إذن أن نسمع تصريحات صادمة مثل تلك التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين تحدث عن “إزالة غزة بمن فيها“. هذه الرؤية ليست جديدة فإن التاريخ مليء بأمثلة حول كيفية تحويل الأراضي إلى “فرص ذهبية” على حساب السكان الأصليين.

ترامب نفسه بدأ حياته في مجال العقارات بفضل تمويلٍ ضخمٍ من والده، استثمره في بناء ناطحات السحاب والمشاريع الفاخرة وأبرزها “برج ترامب” في نيويورك حيث تباع الشقق بملايين الدولارات. واليوم يرى في غزة موقعًا آخر يمكن أن يتحول إلى مشروع مربح إذا ما تم “إخلاؤه” من سكانه.

لم يكن ترامب الوحيد الذي طرح هذه الفكرة بل إن صهره ومستشاره جاريد كوشنر تحدث علنًا عن “إمكانيات التنمية” في غزة. كذلك فإن مبعوثه للشرق الأوسط “ستيف واتكوف” وهو رجل أعمال عقاري، يرى في تلك المنطقة فرصةً ذهبيةً يمكن أن تتحول إلى واحدة من أغلى الأراضي في العالم.

إذا ما تحقق هذا المخطط فسنرى شواطئ غزة تعجّ بالسياح بدلًا من اللاجئين وسنشاهد المنتجعات الفاخرة بدلًا من المخيمات وستُبنى مرافئ لليخوت الفاخرة بدلًا من قوارب الصيد البسيطة.

في كتاب “فن الصفقة” الذي شارك في تأليفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والصحفي توني شوارتز، نجد مجموعة من الأفكار التي تكشف عن طريقة تفكير ترامب في مجال التفاوض. الكتاب ليس مجرد نصائح حول كيفية إتمام صفقة بل هو دليل يُظهر الحيل التي يتبعها ترامب لجعل خصمه يعتقد أنه ليس أمامه خيار سوى الموافقة على الصفقة المعروضة.

من خلال قراءة الكتاب يمكن للقارئ أن يتفهم الاستراتيجية التي يعتمد عليها ترامب عند التفاوض والتي لا تقتصر فقط على تقديم عرض مغري أو إغراءات مالية، بل يتجاوز ذلك إلى تلاعب بالتصورات حيث يجعل الطرف الآخر يرى الخيارات المتاحة له كخيارات فاشلة أو غير مربحة وبالتالي يُجبر على قبول العرض. هذا الأسلوب قد يبدو قاسيًا أو عدوانيًا لكنه في نظر ترامب هو جزء من “فن الصفقة”.

أحد أبرز الأمثلة على هذه الاستراتيجية تجسد في المفاوضات التي أجراها ترامب مع الدنمارك حول جزيرة غرينلاند حيث كان يُلح في سؤاله: “كم تريدون مقابل بيع أكبر جزيرة في العالم؟” السؤال لا يقتصر على مجرد عرض مالي بل هو محاولة لإضعاف موقف الطرف الآخر ودفعه إلى التفكير في أنه قد لا يكون لديه خيار آخر.

حتى في سياق مواقف أخرى مثل تعامله مع دول كالبنما، لا يخلو الخطاب من تهديدات مبطنة. “أيهَا بنما! بكم تبيعون قناتكم لي؟ أم تفضلون أن أرسل لكم أجدادي ليعيدوكم إلى رشدكم؟” بهذه الطريقة يرفع ترامب مستوى الضغط على الأطراف الأخرى ليُشعرهم أن البديل هو الخسارة أو الوقوع في وضع أسوأ.

إذا أردنا تلخيص كتاب “فن الصفقة” في جملة واحدة فهي تُختصر في مبدأ رئيسي: “كيف تجعل خصمك يشعر بأن الخيار الأقل ضررًا هو قبول صفقتك.”

هذا الأسلوب يجعل من ترامب شخصية مثيرة للجدل حيث يمكن أن يُنظر إليه كخبير في المفاوضات من جهة لكنه في ذات الوقت يُعتبر قاسيًا وغير مرن من جهة أخرى.

لم يكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أول من رأى في المواقع الاستراتيجية والمناطق الجغرافية المتميزة فرصًا استثمارية بحتة، بل إن تاريخ الولايات المتحدة حافل بعمليات التوسع التي تمت عبر صفقات مالية أو بالقوة مما جعلها تتحول من مجرد مستعمرة بريطانية إلى واحدة من أكبر القوى العالمية.

منذ بداية القرن التاسع عشر اعتمدت واشنطن على شراء الأراضي لتعزيز نفوذها الجغرافي. ففي عام 1803، أقدم الرئيس توماس جيفرسون على واحدة من أكبر الصفقات العقارية في التاريخ عندما اشترى إقليم لويزيانا من فرنسا مقابل 15 مليون دولار فقط. هذه الصفقة ضاعفت مساحة الولايات المتحدة في يوم واحد وأدت إلى تأسيس ثماني ولايات جديدة.

وفي عام 1819، وسّعت الولايات المتحدة نفوذها جنوبًا بضم ولاية فلوريدا التي اشترتها من إسبانيا مقابل 5 ملايين دولار، بينما جاء التوسع شمالًا في عام 1867 عندما اشترت ألاسكا التي تبلغ مساحتها 1.5 مليون كيلومتر مربع من روسيا القيصرية مقابل 7.2 مليون دولار فقط وهي صفقة أُطلق عليها آنذاك “حماقة سيوارد” قبل أن يتبين لاحقًا أنها كنز استراتيجي مليء بالموارد الطبيعية.

أما في الجنوب، فقد عززت واشنطن حدودها في عام 1853 عبر صفقة مع المكسيك حصلت بموجبها على 120 ألف كيلومتر مربع مقابل 10 ملايين دولار وهي المنطقة التي أصبحت فيما بعد جزءًا من ولايتي نيو مكسيكو وأريزونا.

لكن لم تكن كل عمليات التوسع تتم بالشراء فقط فقد استخدمت الولايات المتحدة أساليب أخرى أكثر عنفًا، كما حدث في عام 1893 عندما عرضت على ملكة جزر هاواي شراء مملكتها لكنها رفضت العرض بازدراء. وبعد خمس سنوات فقط استولت أمريكا على الجزر بالقوة ولم يُعرف بعد ذلك مصير الملكة التي تم إقصاؤها.

وفي عام 1898، كررت واشنطن السيناريو نفسه مع الفلبين التي كانت مستعمرة إسبانية حيث اشترتها مقابل 20 مليون دولار. لكن السكان المحليين الذين كانوا يتوقعون نيل استقلالهم وجدوا أنفسهم تحت سيطرة قوة استعمارية جديدة مما أدى إلى اندلاع المقاومة. وبعد عقود من الوعود والمفاوضات منحت الولايات المتحدة الفلبين استقلالها عام 1946 لتكون هذه المرة الأولى وربما الأخيرة التي تتخلى فيها واشنطن عن أرض حصلت عليها عبر صفقة شراء.

بهذه الخلفية التاريخية يمكن فهم العقلية الأمريكية في التعامل مع الأراضي ذات الأهمية الاستراتيجية. فكل أرض مهما كانت مليئة بالسكان والتاريخ والثقافة يمكن أن تتحول إلى مجرد فرصة اقتصادية أو موقع استثماري طالما أن هناك من يملك المطرقة ويرى كل شيء كأنه مسمار.

ليس من المستغرب أن تُطرح مثل هذه الأفكار فقد حدث الأمر نفسه في فلسطين قبل عقود. عندما صدر وعد بلفور عام 1917، كان كثيرون يرون أن إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين أمر مستحيل إذ كان اليهود يمثلون أقل من 10% من السكان. ومع ذلك وبمزيج من الدعم السياسي والضغط العسكري تحولت هذه الفكرة إلى واقع وأُنشئت إسرائيل عام 1948 على حساب السكان الفلسطينيين.

اليوم يبدو أن السيناريو نفسه يُعاد إنتاجه مع فارق أن هذه المرة تُطرح الفكرة بغطاء اقتصادي واستثماري. يبدو أن العالم يسير وفق منطق القوة لا العدل، والتاريخ لا يتوقف عند الشعارات الحقوقية بل يُكتب بالصفقات والسياسات.

فهل يُكتب لغزة أن تتحول إلى “مشروع عقاري عالمي” كما يحلم البعض؟ أم أن أهلها سيكتبون تاريخًا مختلفًا كما فعلوا في كل مواجهة سابقة؟

الواقع أن التاريخ لم يحسم بعد لكنه يُعيد تكرار نفسه بطريقةٍ تجعلنا نتساءل: هل نعيش عصر “إما أن تتجاوز أو تتحمّل“؟

المصدر: المقال باللغة الأردية وتم نقله إلى اللغة العربية بواسطة عبدالرؤوف حسين والآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري ل UrKish News.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء تعطيل حاجب الإعلانات للاستمرار في استخدام موقعنا